فصل: فصل بَيَانِ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ هذه النَّفَقَةِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ***


فصل سَبَب وُجُوبِ هذه النَّفَقَةِ

وَأَمَّا سَبَبُ وُجُوبِ هذه النَّفَقَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فيه قال أَصْحَابُنَا سَبَبُ وُجُوبِهَا اسْتِحْقَاقُ الْحَبْسِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ لِلزَّوْجِ عليها وقال الشَّافِعِيُّ السَّبَبُ هو الزَّوْجِيَّةُ وهو كَوْنُهَا زَوْجَةً له وَرُبَّمَا قالوا مِلْكُ النِّكَاحِ لِلزَّوْجِ عليها وَرُبَّمَا قالوا القوامية ‏[‏القوامة‏]‏ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الرِّجَالُ قَوَّامُونَ على النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا من أَمْوَالِهِمْ‏}‏ أَوْجَبَ النَّفَقَةَ عليهم لِكَوْنِهِمْ قَوَّامِينَ والقوامية ‏[‏والقوامة‏]‏ تَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ فَكَانَ سَبَبَ وُجُوبِ النَّفَقَةِ النِّكَاحُ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ على الْمَمْلُوكِ من باب إصْلَاحِ الْمِلْكِ وَاسْتِبْقَائِهِ فَكَانَ سَبَبَ وُجُوبِهِ الْمِلْكُ كَنَفَقَةِ الْمَمَالِيكِ‏.‏

وَلَنَا أَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ الثَّابِتِ لِلزَّوْجِ عليها بِسَبَبِ النِّكَاحِ مُؤَثِّرٌ في اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ لها عليه لِمَا بَيَّنَّا فَأَمَّا الْمِلْكُ فَلَا أَثَرَ له لِأَنَّهُ قد قُوبِلَ بِعِوَضٍ مَرَّةً وهو الْمَهْرُ فَلَا يُقَابَلُ بِعِوَضٍ آخَرَ إذْ الْعِوَضُ الْوَاحِدُ لَا يُقَابَلُ بِعِوَضَيْنِ وَلَا حُجَّةَ له في الْآيَةِ لِأَنَّ فيها إثْبَاتَ القوامية ‏[‏القوامة‏]‏ بِسَبَبِ النَّفَقَةِ لَا إيجَابَ النَّفَقَةِ بِسَبَبِ القوامية ‏[‏القوامة‏]‏ وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يبني ‏[‏ينبني‏]‏ أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ على مُسْلِمٍ في نِكَاحٍ فَاسِدٍ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وهو حَقُّ الْحَبْسِ الثَّابِتِ لِلزَّوْجِ عليها بِسَبَبِ النِّكَاحِ لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ لَا يَثْبُتُ في النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَكَذَا النِّكَاحُ الْفَاسِدُ ليس بِنِكَاحٍ حَقِيقَةً وَكَذَا في عِدَّةٍ منه إنْ ثَبَتَ حَقُّ الْحَبْسِ لِأَنَّهُ لم يَثْبُتْ بِسَبَبِ النِّكَاحِ لِانْعِدَامِهِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِتَحْصِينِ الْمَاءِ وَلِأَنَّ حَالَ الْعِدَّةِ لَا يَكُونُ أَقْوَى من حَالِ النِّكَاحِ فلما لم تَجِبْ في النِّكَاحِ فَلَأَنْ لَا تَجِبَ في الْعِدَّةِ أَوْلَى وَتَجِبُ في الْعِدَّةِ من نِكَاحٍ صَحِيحٍ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وهو اسْتِحْقَاقُ الْحَبْسِ لِلزَّوْجِ عليها بِسَبَبِ النِّكَاحِ لِأَنَّ النِّكَاحَ قَائِمٌ من وَجْهٍ فَتَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ كما كانت تَسْتَحِقُّهَا قبل الْفُرْقَةِ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ تَأَكَّدَ بِحَقِّ الشَّرْعِ وَتَأَكُّدُ السَّبَبِ يُوجِبُ تَأَكُّدَ الْحُكْمِ فلما وَجَبَتْ قبل الْفُرْقَةِ فَبَعْدَهَا أَوْلَى سَوَاءٌ كانت الْعِدَّةُ عن فُرْقَةٍ بِطَلَاقٍ أو عن فُرْقَةٍ بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَسَوَاءٌ كانت الْفُرْقَةُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ من قِبَلِ الزَّوْجِ أو من قِبَلِ الْمَرْأَةِ إلَّا إذَا كانت من قِبَلِهَا بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ اسْتِحْسَانًا‏.‏

وشرح هذه الْجُمْلَةِ أَنَّ الْفُرْقَةَ إذَا كانت من قِبَلِ الزَّوْجِ بِطَلَاقٍ فَلَهَا النَّفَقَةُ والسكن ‏[‏والسكنى‏]‏ سَوَاءٌ كان الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا أو بَائِنًا وَسَوَاءٌ كانت حَامِلًا أو حَائِلًا بَعْدَ أَنْ كانت مَدْخُولًا بها عِنْدَنَا لِقِيَامِ حَقِّ حَبْسِ النِّكَاحِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إنْ كانت مُطَلَّقَةً طَلَاقًا رَجْعِيًّا أو بَائِنًا وَهِيَ حَامِلٌ فَكَذَلِكَ فَأَمَّا الْمَبْتُوتَةُ إذَا كانت حَامِلًا فَلَهَا السُّكْنَى وَلَا نَفَقَةَ لها لِزَوَالِ النِّكَاحِ بِالْإِبَانَةِ وكان يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ لها السُّكْنَى إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ الْقِيَاسَ في السُّكْنَى بِالنَّصِّ وَعِنْدَ ابْنِ أبي لَيْلَى لَا نَفَقَةَ لِلْمَبْتُوتَةِ وَلَا سُكْنَى لها وَالْمَسْأَلَةُ ذُكِرَتْ في كتاب الطَّلَاقِ وفي بَيَانِ أَحْكَامِ الْعِدَّةِ وَسَوَاءٌ كان الطَّلَاقُ بِبَدَلٍ أو بِغَيْرِ بَدَلٍ وهو الْخُلْعُ وَالطَّلَاقُ على مَالٍ لِمَا قُلْنَا‏.‏

وَلَوْ خَالَعَهَا على أَنْ يَبْرَأَ من النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى يَبْرَأُ من النَّفَقَةِ وَلَا يَبْرَأُ من السُّكْنَى لَكِنَّهُ يَبْرَأُ عن مُؤْنَةِ السُّكْنَى لِأَنَّ النَّفَقَةَ حَقُّهَا على الْخُلُوصِ وَكَذَا مُؤْنَةُ السُّكْنَى فَتَمْلِكُ الْإِبْرَاءَ عن حَقِّهَا فَأَمَّا السُّكْنَى فَفِيهَا حَقُّ اللَّهِ عز وجل فَلَا تَمْلِكُ الْمُعْتَدَّةُ إسْقَاطَهُ وَلَوْ أَبْرَأَتْهُ عن النَّفَقَةِ من غَيْرِ قَطْعٍ لَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطُ الْوَاجِبِ فَيَسْتَدْعِي تَقَدُّمَ الْوُجُوبِ وَالنَّفَقَةُ تَجِبُ شيئا فَشَيْئًا على حَسَبِ مُرُورِ الزَّمَانِ فَكَانَ الْإِبْرَاءُ إسْقَاطًا قبل الْوُجُوبِ فلم يَصِحَّ بِخِلَافِ ما إذَا اخْتَلَعَتْ نَفْسَهَا على نَفَقَتِهَا لِمَا ذَكَرْنَاهُ في الْخُلْعِ وَلِأَنَّهَا جَعَلَتْ الْإِبْرَاءَ عن النَّفَقَةِ عِوَضًا عن نَفْسِهَا في الْعَقْدِ وَلَا يَصِحُّ ذلك إلَّا بَعْدَ سَابِقَةِ الْوُجُوبِ فَيُثْبِتُ الْوُجُوبُ مُقْتَضَى الْخُلْعِ بِاصْطِلَاحِهِمَا كما لو اصْطَلَحَا على النَّفَقَةِ إنها تَجِبُ وَتَصِيرُ دَيْنًا في الذِّمَّةِ كَذَا هذا‏.‏

وَكَذَلِكَ الْفُرْقَةُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ إذَا كانت من قِبَلِهِ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى سَوَاءٌ كانت بِسَبَبٍ مُبَاحٍ كَخِيَارِ الْبُلُوغِ أو بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ كَالرِّدَّةِ وَوَطْءِ أُمِّهَا أو ابْنَتِهَا أو تَقْبِيلِهِمَا بِشَهْوَةٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الدُّخُولِ بها لِقِيَامِ السَّبَبِ وهو حَقُّ الْحَبْسِ لِلزَّوْجِ عليها بِسَبَبِ النِّكَاحِ وإذا كانت من قِبَلِ الْمَرْأَةِ فَإِنْ كانت بِسَبَبٍ مُبَاحٍ كَخِيَارِ الْإِدْرَاكِ وَخِيَارِ الْعِتْقِ وَخِيَارِ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ فَكَذَلِكَ لها النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى وَإِنْ كانت بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ بِأَنْ ارْتَدَّتْ أو طَاوَعَتْ ابْنَ زَوْجِهَا أو أَبَاهُ أو لَمَسَتْهُ بِشَهْوَةٍ فَلَا نَفَقَةَ لها اسْتِحْسَانًا وَلَهَا السُّكْنَى وَإِنْ كانت مُسْتَكْرَهَةً وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ لها النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى في ذلك كُلِّهِ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ قَائِمٌ وَتَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ كما إذَا كانت الْفُرْقَةُ من قِبَلِهَا بِسَبَبٍ مُبَاحٍ وَكَمَا إذَا كانت الْفُرْقَةُ من قِبَلِ الزَّوْجِ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ أو مَحْظُورٍ وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ قد بَطَلَ بِرِدَّتِهَا أَلَا تَرَى أنها تُحْبَسُ بَعْدَ الرِّدَّةِ جَبْرًا لها على الْإِسْلَامِ لِثُبُوتِ بَقَاءِ حَقِّ النِّكَاحِ فلم تَجِبْ النَّفَقَةُ بِخِلَافِ ما إذَا كانت الْفُرْقَةُ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ لِأَنَّ هُنَاكَ حَبْسَ النِّكَاحِ قَائِمٌ فَبَقِيَتْ النَّفَقَةُ وَكَذَا إذَا كانت من قِبَلِ الزَّوْجِ بِسَبَبٍ هو مَعْصِيَةٌ لِأَنَّهَا لَا تُحْبَسُ بِرِدَّةِ الزَّوْجِ فَيَبْقَى حَبْسُ النِّكَاحِ فَتَبْقَى الْعِدَّةُ لَكِنْ هذا يُشْكَلُ بِمَا إذَا طَاوَعَتْ ابْنَ زَوْجِهَا أو قَبَّلَتْهُ بِشَهْوَةٍ إنها لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ وَإِنْ بَقِيَ حَبْسُ النِّكَاحِ ما دَامَتْ الْعِدَّةُ قَائِمَةً وَلَا إشْكَالَ في الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ هُنَاكَ عَدَمَ الِاسْتِحْقَاقِ لِانْعِدَامِ شَرْطٍ من شَرَائِطِ الِاسْتِحْقَاقِ وهو أَنْ لَا يَكُونَ الْفُرْقَةُ من قِبَلِهَا خَاصَّةً بِفِعْلٍ هو مَحْظُورٌ مع قِيَامِ السَّبَبِ وهو حَبْسُ النِّكَاحِ فَانْدَفَعَ الْإِشْكَالُ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى‏.‏

وَالثَّانِي أَنَّ حَبْسَ النِّكَاحِ إنَّمَا أَوْجَبَ النَّفَقَةَ عليه صِلَةً لها فإذا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِفِعْلِهَا اللذي ‏[‏الذي‏]‏ هو مَعْصِيَةٌ لم تَسْتَحِقَّ الصِّلَةَ إذْ الْجَانِي لَا يَسْتَحِقُّ الصِّلَةَ بَلْ يَسْتَحِقُّ الزَّجْرَ وَذَلِكَ في الْحِرْمَانِ لَا في الِاسْتِحْقَاقِ كَمَنْ قَتَلَ مُوَرِّثَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ إنه يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا بِخِلَافِ ما إذَا كانت مُسْتَكْرَهَةً على الْوَطْءِ لِأَنَّ فِعْلَهَا ليس بِجِنَايَةٍ فَلَا يُوجِبُ حِرْمَانَ الصِّلَةِ وَكَذَا إذَا كانت الْفُرْقَةُ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ وَبِخِلَافِ الزَّوْجِ لِأَنَّ النَّفَقَةَ حَقُّهَا قِبَلَ الزَّوْجِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِعْلُهُ الذي هو مَعْصِيَةٌ في إسْقَاطِ حَقِّ الْغَيْرِ فَهُوَ الْفَرْقُ بين الْفصليْنِ وَإِنَّمَا لم تُحْرَمْ السُّكْنَى بِفِعْلِهَا الذي هو مَعْصِيَةٌ لِمَا قُلْنَا أن في السُّكْنَى حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِفِعْلِ الْعَبْدِ وَلَوْ ارْتَدَّتْ في النِّكَاحِ حتى حُرِمَتْ النَّفَقَةَ ثُمَّ أَسْلَمَتْ في الْعِدَّةِ لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ وَلَوْ ارْتَدَّتْ في الْعِدَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَتْ وَهِيَ في الْعِدَّةِ تَعُودُ النَّفَقَةُ‏.‏

وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ النَّفَقَةَ في الْفصل الثَّانِي بَقِيَتْ وَاجِبَةً بَعْدَ الْفُرْقَةِ قبل الرِّدَّةِ لِبَقَاءِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وهو حَبْسُ النِّكَاحِ وَقْتَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ ثُمَّ امْتَنَعَ وُجُوبُهَا من بَعْدِ تَعَارُضِ الرِّدَّةِ فإذا عَادَتْ إلَى الْإِسْلَامِ فَقَدْ زَالَ الْعَارِضُ فَتَعُودُ النَّفَقَةُ وَأَمَّا في الْفصل الْأَوَّلِ فَالنَّفَقَةُ لم تَبْقَ وَاجِبَةً وَقْتَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ لِبُطْلَانِ سَبَبِ وُجُوبِهَا بِالرِّدَّةِ في حَقِّ حَبْسِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الرِّدَّةَ أَوْجَبَتْ بُطْلَانَ ذلك الْحَبْسِ فَلَا يَعُودُ من غَيْرِ تَجْدِيدِ النِّكَاحِ فَلَا تَعُودُ النَّفَقَةُ بِدُونِهِ وَالْأَصْلُ في هذا أَنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ لم تَبْطُلْ نَفَقَتُهَا بِالْفُرْقَةِ ثُمَّ بَطَلَتْ في الْعِدَّةِ لِعَارِضٍ منها ثُمَّ زَالَ الْعَارِضُ في الْعِدَّةِ تَعُودُ نَفَقَتُهَا وَكُلُّ من بَطَلَتْ نَفَقَتُهَا بِالْفُرْقَةِ لَا تَعُودُ النَّفَقَةُ في الْعِدَّةِ وَإِنْ زَالَ سَبَبُ الْفُرْقَةِ في الْعِدَّةِ بِخِلَافِ ما إذَا نَشَزَتْ ثُمَّ عَادَتْ إنها تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ لِأَنَّ النُّشُوزَ لم يُوجِبْ بُطْلَانَ حَقِّ الْحَبْسِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ وَإِنَّمَا فَوَّتَ التَّسْلِيمَ الْمُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ فإذا عَادَتْ فَقَدْ سَلَّمَتْ نَفْسَهَا فَاسْتَحَقَّتْ النَّفَقَةَ‏.‏

وَلَوْ طَاوَعَتْ ابْنَ زَوْجِهَا أو أَبَاهُ في الْعِدَّةِ أو لَمَسَتْهُ بِشَهْوَةٍ فَإِنْ كانت مُعْتَدَّةً من طَلَاقٍ وهو رَجْعِيٌّ فَلَا نَفَقَةَ لها لِأَنَّ الْفُرْقَةَ ما وَقَعَتْ بِالطَّلَاقِ وَإِنَّمَا وَقَعَتْ بِسَبَبٍ وُجِدَ منها وهو مَحْظُورٌ وَإِنْ كان الطَّلَاقُ بَائِنًا أو كانت مُعْتَدَّةً عن فُرْقَةٍ بِغَيْرِ طَلَاقٍ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى بِخِلَافِ ما إذَا ارْتَدَّتْ في الْعِدَّةِ أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لها إلَى أَنْ تَعُودَ إلَى الْإِسْلَامِ وَهِيَ في الْعِدَّةِ لِأَنَّ حَبْسَ النِّكَاحِ يَفُوتُ بِالرِّدَّةِ وَلَا يَفُوتُ بِالْمُطَاوَعَةِ وَالْمَسِّ وَلَوْ ارْتَدَّتْ في الْعِدَّةِ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَتْ وَأَسْلَمَتْ أو سُبِيَتْ وَأُعْتِقَتْ أو لم تُعْتَقْ فَلَا نَفَقَةَ لها لِأَنَّ الْعِدَّةَ قد بَطَلَتْ بِاللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّ الرِّدَّةَ مع اللَّحَاقِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ أَمَةٌ طَلَاقًا بَائِنًا وقد كان الْمَوْلَى بَوَّأَهَا مع زَوْجِهَا بَيْتًا حتى وَجَبَتْ النَّفَقَةُ ثُمَّ أَخْرَجَهَا الْمَوْلَى لِخِدْمَتِهِ حتى سَقَطَتْ النَّفَقَةُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُعِيدَهَا إلَى الزَّوْجِ وَيَأْخُذَ النَّفَقَةَ كان له ذلك وَإِنْ لم يَكُنْ بَوَّأَهَا الْمَوْلَى بَيْتًا حتى طَلَّقَهَا الزَّوْجُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُبَوِّئَهَا مع الزَّوْجِ في الْعِدَّةِ لِتَجِبَ النَّفَقَةُ فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ النَّفَقَةَ كانت وَاجِبَةً في الْفصل الْأَوَّلِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وهو الِاحْتِبَاسُ وَشَرْطِهِ وهو التَّسْلِيمُ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا أَخْرَجَهَا إلَى خِدْمَتِهِ فَقَدْ فَوَّتَ على الزَّوْجِ الِاحْتِبَاسَ الثَّابِتَ حَقًّا له وَالتَّسْلِيمَ فَامْتَنَعَ وُجُوبُ النَّفَقَةِ حقا له فإذا أَعَادَهَا إلَى الزَّوْجِ عَادَ حَقُّهُ فَيَعُودُ حَقُّ الْمَوْلَى في النَّفَقَةِ‏.‏

فَأَمَّا في الْفصل الثَّانِي فَالنَّفَقَةُ ما كانت وَاجِبَةً في الْعِدَّةِ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْوُجُوبِ أو شَرْطِ الْوُجُوبِ وهو التَّسْلِيمُ فَهُوَ بِالْبَيْنُونَةِ يُرِيدُ إلْزَامَ الزَّوْجِ النَّفَقَةَ ابْتِدَاءً في الْعِدَّةِ فَلَا يَمْلِكُ ذلك وَالْأَصْلُ في ذلك أَنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ كانت لها النَّفَقَةُ يوم الطَّلَاقِ ثُمَّ صَارَتْ إلَى حَالٍ لَا نَفَقَةَ لها فيها فَلَهَا أَنْ تَعُودَ وَتَأْخُذَ النَّفَقَةَ وَكُلُّ امْرَأَةٍ لَا نَفَقَةَ لها يوم الطَّلَاقِ فَلَيْسَ لها نَفَقَةٌ أَبَدًا إلَّا النَّاشِزَةَ وَتَفْسِيرُ ذلك وَالْوَجْهُ فيه ما ذَكَرْنَا‏.‏

وَيَسْتَوِي في نَفَقَةِ الْمُعْتَدَّةِ عِدَّةُ الْأَقْرَاءِ وَعِدَّةُ الْأَشْهُرِ وَعِدَّةُ الْحَمْلِ لِاسْتِوَاءِ الْكُلِّ في سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فَيُنْفِقُ عليها ما دَامَتْ في الْعِدَّةِ وَإِنْ تَطَاوَلَتْ الْمُدَّةُ لِعُذْرِ الْحَبَلِ أو لِعُذْرٍ آخَرَ وَيَكُونُ الْقَوْلُ في ذلك قَوْلَهَا لِأَنَّ ذلك أَمْرٌ يُعْرَفُ من قِبَلِهَا حتى لو ادَّعَتْ أنها حَامِلٌ أَنْفَقَ عليها إلَى سَنَتَيْنِ مُنْذُ طَلَّقَهَا لِأَنَّ الْوَلَدَ يَبْقَى في الْبَطْنِ إلَى سَنَتَيْنِ فَإِنْ مَضَتْ سَنَتَانِ ولم تَضَعْ فقالت كنت أَتَوَهَّمُ إني حَامِلٌ ولم أَحِضْ إلَى هذه الْغَايَةِ وَطَلَبَتْ النَّفَقَةَ لِعُذْرِ امْتِدَادِ الطُّهْرِ وقال الزَّوْجُ إنَّك ادَّعَيْت الْحَمْلَ فَإِنَّمَا تَجِبُ على النَّفَقَةُ لِعِلَّةِ الْحَمْلِ وَأَكْثَرُ مُدَّةِ الْحَمْلِ سَنَتَانِ وقد مَضَى ذلك فَلَا نَفَقَةَ عَلَيَّ فإن الْقَاضِيَ لَا يَلْتَفِتُ إلَى قَوْلِهِ وَيُلْزِمُهُ النَّفَقَةَ إلَى أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا بِالْأَقْرَاءِ وَتَدْخُلَ في عِدَّةِ الْإِيَاسِ لِأَنَّ أَحَدَ الْعُذْرَيْنِ إنْ بَطَلَ وهو عُذْرُ الْحَمْلِ فَقَدْ بَقِيَ الْآخَرُ وهو عُذْرُ امْتِدَادِ الطُّهْرِ إذْ الْمُمْتَدُّ طُهْرُهَا من ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ وَهِيَ مُصَدَّقَةٌ في ذلك فَإِنْ لم تَحِضْ حتى دَخَلَتْ في حَدِّ الْإِيَاسِ أَنْفَقَ عليها ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ فَإِنْ حَاضَتْ في الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ وَاسْتَقْبَلَتْ الْعِدَّةَ بِالْحَيْضِ فَلَهَا النَّفَقَةُ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ‏.‏

وَكَذَلِكَ لو كانت صَغِيرَةً يُجَامَعُ مِثْلُهَا فَطَلَّقَهَا بعدما دخل بها أَنْفَقَ عليها ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ فَإِنْ حَاضَتْ في الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ وَاسْتَقْبَلَتْ عِدَّةَ الْأَقْرَاءِ أَنْفَقَ عليها حتى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا لِمَا قُلْنَا وَإِنْ طَالَبَتْهُ امرأت ‏[‏امرأة‏]‏ بِالنَّفَقَةِ وَقَدَّمَتْهُ إلَى الْقَاضِي فقال الرَّجُلُ لِلْقَاضِي قد كنت طَلَّقْتهَا مُنْذُ سَنَةٍ وقد انْقَضَتْ عِدَّتُهَا في هذه الْمُدَّةِ وَجَحَدَتْ الْمَرْأَةُ للطلاق ‏[‏الطلاق‏]‏ فإن الْقَاضِيَ لَا يَقْبَلُ قَوْلَ الزَّوْجِ أنه طَلَّقَهَا مُنْذُ سَنَةٍ وَلَكِنْ يَقَعُ الطَّلَاقُ عليها مُنْذُ أَقَرَّ بِهِ عِنْدَ الْقَاضِي لِأَنَّهُ يُصَدَّقُ في حَقِّ نَفْسِهِ لَا في إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ فَإِنْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ على أَنَّهُ طَلَّقَهَا مُنْذُ سَنَةٍ وَالْقَاضِي لَا يَعْرِفُهُمَا أَمَرَهُ الْقَاضِي بِالنَّفَقَةِ وَفَرَضَ لها عليه النَّفَقَةَ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ مُنْذُ سَنَةٍ لم تَظْهَرْ بَعْدُ‏.‏

فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَادِلَةً أو أَقَرَّتْ هِيَ أنها قد حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ في هذه السَّنَةِ فَلَا نَفَقَةَ لها على الزَّوْجِ وَإِنْ كانت أَخَذَتْ منه شيئا تَرُدُّهُ عليه لِظُهُورِ ثُبُوتِ الْفُرْقَةِ مُنْذُ سَنَةٍ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَإِنْ قالت لم أَحِضْ في هذه السَّنَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا وَلَهَا النَّفَقَةَ لِأَنَّ الْقَوْلَ في انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ قَوْلُهَا فَإِنْ قال الزَّوْجُ قد أَخْبَرَتْنِي أَنَّ عِدَّتَهَا قد انْقَضَتْ لم يُقْبَلْ قَوْلُهُ في إبْطَالِ نَفَقَتِهَا لِأَنَّهُ غَيْرُ مُصَدَّقٍ عليها في إبْطَالِ حَقِّهَا وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا أو بَائِنًا فَامْتَدَّتْ عِدَّتُهَا إلَى سَنَتَيْنِ ثُمَّ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ من سَنَتَيْنِ وقد كان الزَّوْجُ أَعْطَاهَا النَّفَقَةَ إلَى وَقْتِ الْوِلَادَةِ فإنه يُحْكَمُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا قبل الْوِلَادَةِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَيَسْتَرِدُّ نَفَقَةَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ قبل الْوِلَادَةِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَسْتَرِدُّ شيئا من النَّفَقَةِ وَكَذَلِكَ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ في حَالِ الْمَرَضِ فَامْتَدَّ مَرَضُهُ إلَى سَنَتَيْنِ وَامْتَدَّتْ عِدَّتُهَا إلَى سَنَتَيْنِ ثُمَّ وَلَدَتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِشَهْرٍ وقد كان أَعْطَاهَا النَّفَقَةَ إلَى وَقْتِ الْوَفَاةِ فَإِنَّهَا لَا تَرِثُ وَيَسْتَرِدُّ منها نَفَقَةَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ تَرِثُ وَلَا يَسْتَرِدُّ شيئا من النَّفَقَةِ وقد مَرَّتْ الْمَسْأَلَتَانِ في كتاب الطَّلَاقِ وَلَا نَفَقَةَ في الْفُرْقَةِ قبل الدُّخُولِ بِأَيِّ سَبَبٍ كانت لِارْتِفَاعِ النِّكَاحِ من كل وَجْهٍ فَيَنْعَدِمُ السَّبَبُ وهو الْحَبْسُ الثَّابِتُ بِالنِّكَاحِ وَأُمُّ الْوَلَدِ إذَا أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا وَوَجَبَتْ عليها الْعِدَّةُ لَا نَفَقَةَ لها وَإِنْ كانت مَحْبُوسَةً مَمْنُوعَةً عن الْخُرُوجِ لِأَنَّ هذا الْحَبْسَ لم يَثْبُتْ بِسَبَبِ النِّكَاحِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِتَحْصِينِ الْمَاءِ فَأَشْبَهَتْ الْمُعْتَدَّةَ من النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَلِأَنَّ نَفَقَتَهَا قبل الْعِتْقِ إنَّمَا وَجَبَتْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لَا بالإحتباس وقد زَالَ بِالْإِعْتَاقِ وَنَفَقَةُ الزَّوْجَةِ إنَّمَا وَجَبَتْ بِالِاحْتِبَاسِ وأنه قَائِمٌ‏.‏

فصل شَرْطِ وُجُوبِ هذه النَّفَقَةِ

وَأَمَّا شَرْطُ وُجُوبِ هذه النَّفَقَةِ فَلِوُجُوبِهَا شَرْطَانِ أَحَدُهُمَا يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ جميعا أَعْنِي نَفَقَةَ النِّكَاحِ وَنَفَقَةَ الْعِدَّةِ وَالثَّانِي يَخُصُّ أَحَدَهُمَا وهو نَفَقَةُ الْعِدَّةِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَتَسْلِيمُ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا إلَى الزَّوْجِ وَقْتَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ وَنَعْنِي بِالتَّسْلِيمِ التَّخْلِيَةَ وَهِيَ أَنْ تخلى بين نَفْسِهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا بِرَفْعِ الْمَانِعِ من وَطْئِهَا أو الِاسْتِمْتَاعِ بها حَقِيقَةً إذَا كان الْمَانِعُ من قِبَلِهَا أو من قِبَلِ غَيْرِ الزَّوْجِ فَإِنْ لم يُوجَدْ التَّسْلِيمُ على هذا التَّفْسِيرِ وَقْتَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ فَلَا نَفَقَةَ لها وَعَلَى هذا تخرج ‏[‏يخرج‏]‏ مَسَائِلُ إذَا تَزَوَّجَ بَالِغَةً حُرَّةً صَحِيحَةً سَلِيمَةً وَنَقَلَهَا إلَى بَيْتِهِ فَلَهَا النَّفَقَةُ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَشَرْطِهِ وَكَذَلِكَ إذَا لم يَنْقُلْهَا وَهِيَ بِحَيْثُ لَا تَمْنَعُ نَفْسَهَا وَطَلَبَتْ النَّفَقَةَ ولم يُطَالِبْهَا بِالنُّقْلَةِ فَلَهَا النَّفَقَةُ لِأَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ وهو اسْتِحْقَاقُ الْحَبْسِ وَشَرْطُهُ وهو التَّسْلِيمُ على التَّفْسِيرِ الذي ذَكَرْنَا فَالزَّوْجُ بِتَرْكِ النُّقْلَةِ تَرَكَ حَقَّ نَفْسِهِ مع إمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَبْطُلُ حَقُّهَا في النَّفَقَةِ فَإِنْ طَالَبَهَا بِالنُّقْلَةِ فَامْتَنَعَتْ فَإِنْ كان امْتِنَاعُهَا بِحَقٍّ بِأَنْ امْتَنَعَتْ لِاسْتِيفَاءِ مَهْرِهَا الْعَاجِلِ فَلَهَا النَّفَقَةُ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عليها التَّسْلِيمُ قبل اسْتِيفَاءِ الْعَاجِلِ من مَهْرِهَا فلم يُوجَدْ منها الِامْتِنَاعُ من التَّسْلِيمِ وَقْتَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ وَعَلَى هذا قالوا لو طَالَبَهَا بِالنُّقْلَةِ بعدما أَوْفَاهَا الْمَهْرَ إلَى دَارٍ مَغْصُوبَةٍ فَامْتَنَعَتْ فَلَهَا النَّفَقَةُ لِأَنَّ امْتِنَاعَهَا بِحَقٍّ فلم يَجِبْ عليها التَّسْلِيمُ فلم تَمْتَنِعْ من التَّسْلِيمِ حَالَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ‏.‏

وَلَوْ كانت سَاكِنَةً مَنْزِلَهَا فَمَنَعَتْهُ من الدُّخُولِ عليها لَا على سَبِيلِ النُّشُوزِ فَإِنْ قالت حَوِّلْنِي إلَى مَنْزِلِك أو أكتر لي مَنْزِلًا أَنْزِلُهُ فَإِنِّي أَحْتَاجُ إلَى مَنْزِلِي هذا آخُذُ كِرَاءَهُ فَلَهَا النَّفَقَةُ لِأَنَّ امْتِنَاعَهَا عن التَّسْلِيمِ في بَيْتِهَا لِغَرَضِ التَّحْوِيلِ إلَى مَنْزِلِهِ أو إلَى مَنْزِلِ الْكِرَاءِ امْتِنَاعٌ بِحَقٍّ فلم يُوجَدْ منها الِامْتِنَاعُ من التَّسْلِيمِ وَقْتَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ وَإِنْ كان بِغَيْرِ حَقٍّ بِأَنْ كان الزَّوْجُ قد أَوْفَاهَا مَهْرَهَا أو كان مُؤَجَّلًا فَلَا نَفَقَةَ لها لِانْعِدَامِ التَّسْلِيمِ حَالَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ فلم يُوجَدْ شَرْطُ الْوُجُوبِ فَلَا تَجِبُ وَلِهَذَا لم تَجِبْ النَّفَقَةُ لِلنَّاشِزَةِ وَهَذِهِ نَاشِزَةٌ وَلَوْ مَنَعَتْ نَفْسَهَا عن زَوْجِهَا بعدما دخل بها بِرِضَاهَا لِاسْتِيفَاءِ مَهْرِهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ مَنْعٌ بِحَقٍّ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا نَفَقَةَ لها لِكَوْنِهِ مَنْعًا بِغَيْرِ حَقٍّ عِنْدَهُمَا‏.‏

وَلَوْ مَنَعَتْ نَفْسَهَا عن زَوْجِهَا بعدما دخل بها على كُرْهٍ منها فَلَهَا النَّفَقَةُ لِأَنَّهَا مُحِقَّةٌ في الْمَنْعِ وَإِنْ كانت صَغِيرَةً يُجَامَعُ مِثْلُهَا فَهِيَ كَالْبَالِغَةِ في النَّفَقَةِ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ لِلنَّفَقَةِ يَجْمَعُهُمَا وَإِنْ كانت لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا فَلَا نَفَقَةَ لها عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لها النَّفَقَةُ بِنَاءً على أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ عِنْدَهُ النِّكَاحُ وَشَرْطُهُ عَدَمُ النُّشُوزِ وقد وُجِدَ أو ‏[‏وشرط‏]‏ شرط الْوُجُوبِ عِنْدَنَا تَسْلِيمُ النَّفْسِ وَلَا يَتَحَقَّقُ التَّسْلِيمُ في الصَّغِيرَةِ إلى ‏[‏التي‏]‏ لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا لَا منها وَلَا من غَيْرِهَا لِقِيَامِ الْمَانِعِ في نَفْسِهَا من الْوَطْءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ لِعَدَمِ قَبُولِ الْمَحَلِّ لِذَلِكَ فَانْعَدَمَ شَرْطُ الْوُجُوبِ فَلَا يَجِبُ‏.‏

وقال أبو يُوسُفَ إذَا كانت الصَّغِيرَةُ تَخْدُمُ الزَّوْجَ وَيَنْتَفِعُ الزَّوْجُ بها بِالْخِدْمَةِ فَسَلَّمَتْ نَفْسَهَا إلَيْهِ فَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا فَإِنْ أَمْسَكَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ وَإِنْ رَدَّهَا فَلَا نَفَقَةَ لها لِأَنَّهَا إذا لم تَحْتَمِلْ الْوَطْءَ لم يُوجَدْ التَّسْلِيمُ الذي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ فَكَانَ له أَنْ يَمْتَنِعَ من الْقَبُولِ فَإِنْ أَمْسَكَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ لِأَنَّهُ حَصَلَ له منها نَوْعُ مَنْفَعَةٍ وَضَرْبٌ من الِاسْتِمْتَاعِ وقد رضي بِالتَّسْلِيمِ الْقَاصِرِ وَإِنْ رَدَّهَا فَلَا نَفَقَةَ لها حتى يَجِيءَ حَالٌ يَقْدِرُ فيها على جِمَاعِهَا لِانْعِدَامِ التَّسْلِيمِ الذي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ وَعَدَمِ رِضَاهُ بِالتَّسْلِيمِ الْقَاصِرِ وَإِنْ كان الزَّوْجُ صَغِيرًا وَالْمَرْأَةُ كَبِيرَةً فَلَهَا النَّفَقَةُ لِوُجُودِ التَّسْلِيمِ منها على التَّفْسِيرِ الذي ذَكَرْنَا وَإِنَّمَا عَجَزَ الزَّوْجُ عن الْقَبْضِ وأنه ليس بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ وَكَذَلِكَ لو كان الزَّوْجُ مَجْبُوبًا أو عِنِّينًا أو مَحْبُوسًا في دَيْنٍ أو مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ على الْجِمَاعِ أو خَارِجًا لِلْحَجِّ فَلَهَا النَّفَقَةُ لِمَا قُلْنَا‏.‏

وَلَوْ كانت الْمَرْأَةُ مَرِيضَةً قبل النُّقْلَةِ مَرَضًا يَمْنَعُ من الْجِمَاعِ فَنُقِلَتْ وَهِيَ مَرِيضَةٌ فَلَهَا النَّفَقَةُ بَعْدَ النُّقْلَةِ وَقَبْلَهَا أَيْضًا فإذا طَلَبَتْ النَّفَقَةَ فلم يَنْقُلْهَا الزَّوْجُ وَهِيَ لَا تَمْتَنِعُ من النُّقْلَةِ لو طَالَبَهَا الزَّوْجُ وَإِنْ كانت تَمْتَنِعُ فَلَا نَفَقَةَ لها كَالصَّحِيحَةِ كَذَا ذَكَرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لها قبل النُّقْلَةِ فإذا نُقِلَتْ وَهِيَ مَرِيضَةٌ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لم يُوجَدْ التَّسْلِيمُ إذا هو تَخْلِيَةٌ وَتَمْكِينٌ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذلك مع الْمَانِعِ وهو تبوؤ ‏[‏تبوء‏]‏ الْمَحَلِّ فَلَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ كَالصَّغِيرَةِ التي لَا تَحْتَمِلُ الْوَطْءَ وإذا سلمت ‏[‏أسلمت‏]‏ نَفْسَهَا وَهِيَ مَرِيضَةٌ له أَنْ يَرُدَّهَا لِأَنَّ التَّسْلِيمَ الذي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ وهو التَّسْلِيمُ الْمُمَكِّنُ من الْوَطْءِ لَمَّا لم يُوجَدْ كان له أَنْ لَا يَقْبَلَ التَّسْلِيمَ الذي لم يُوجِبْهُ الْعَقْدُ وَهَكَذَا قال أبو يُوسُفَ في الصَّغِيرَةِ التي لم يُجَامَعُ مِثْلُهَا أَنَّ له أَنْ يَرُدَّهَا لِمَا قُلْنَا‏.‏

وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ التَّسْلِيمَ في حَقِّ التَّمْكِينِ من الْوَطْءِ إنْ لم يُوجَدْ فَقَدْ وُجِدَ في حَقِّ التَّمْكِينِ من الِاسْتِمْتَاعِ وَهَذَا يَكْفِي لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ كما في الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالصَّائِمَةِ صَوْمَ رَمَضَانَ وإذا امْتَنَعَتْ فلم يُوجَدْ منها التَّسْلِيمُ رَأْسًا فَلَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ وقال أبو يُوسُفَ إذَا كانت الْمَرِيضَةُ تُؤْنِسُهُ وَيَنْتَفِعُ بها في غَيْرِ الْجِمَاعِ فَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا فَإِنْ أَمْسَكَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ وَإِنْ رَدَّهَا فَلَا نَفَقَةَ لها لِمَا ذَكَرْنَا في الصَّغِيرَةِ وَإِنْ نُقِلَتْ وَهِيَ صَحِيحَةٌ ثُمَّ مَرِضَتْ في بَيْتِ الزَّوْجِ مَرَضًا لَا تَسْتَطِيعُ معه الْجِمَاعَ لم تَبْطُلْ نَفَقَتُهَا بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ الْمُطْلَقَ وهو التَّسْلِيمُ الْمُمَكِّنُ من الْوَطْءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ قد حَصَلَ بِالِانْتِقَالِ لِأَنَّهَا كانت صَحِيحَةً كَذَا الِانْتِقَالُ ثُمَّ قَصُرَ التَّسْلِيمُ لِعَارِضٍ يَحْتَمِلُ الزَّوَالَ فَأَشْبَهَ الْحَيْضَ أو نَقُولُ التَّسْلِيمُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ في حَقِّ الْمَرِيضَةِ التي لَا تَحْتَمِلُ الْجِمَاعَ قبل الِانْتِقَالِ وَبَعْدَهُ هو التَّسْلِيمُ في حَقِّ الِاسْتِمْتَاعِ لَا في حَقِّ الْوَطْءِ كما في حَقِّ الْحَائِضِ وَكَذَا إذَا نَقَلَهَا ثُمَّ ذَهَبَ عَقْلُهَا فَصَارَتْ مَعْتُوهَةً مَغْلُوبَةً أو كَبِرَتْ فَطَعَنَتْ في السِّنِّ حتى لَا يَسْتَطِيعَ زَوْجُهَا جِمَاعَهَا أو أَصَابَهَا بَلَاءٌ فَلَهَا النَّفَقَةُ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ حُبِسَتْ في دَيْنٍ ذَكَرَ في الْجَامِعِ الْكَبِيرِ أَنْ لَا نَفَقَةَ لها ولم يُفصل بين ما إذَا كان الْحَبْسُ قبل الإنتقال أو بَعْدَهُ وَبَيْنَ ما إذَا كانت قَادِرَةً على التَّخْلِيَةِ أو لَا لِأَنَّ حَبْسَ النِّكَاحِ قد بَطَلَ بأعراض حَبْسِ الدَّيْنِ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ أَحَقُّ بِحَبْسِهَا بِالدَّيْنِ وَفَاتَ التَّسْلِيمُ أَيْضًا بِمَعْنًى من قِبَلِهَا وهو مطلها ‏[‏مطلبها‏]‏ فَصَارَتْ كالناشزة ‏[‏كالناشز‏]‏‏.‏

وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أنها إذَا كانت مَحْبُوسَةً في دَيْنٍ من قَبْلِ النُّقْلَةِ فَإِنْ كانت تَقْدِرُ على أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ وَإِنْ كانت في مَوْضِعٍ لَا تَقْدِرُ على التَّخْلِيَةِ فَلَا نَفَقَةَ لها وَهَذَا تَفْسِيرُ ما أَجْمَلَهُ مُحَمَّدٌ في الْجَامِعِ لِأَنَّهَا إذَا كانت تَقْدِرُ على أَنْ تُوصِلَهُ إلَيْهَا فَالظَّاهِرُ منها عَدَمُ الْمَنْعِ لو طَالَبَهَا الزَّوْجُ وَهَذَا تَفْسِيرُ التَّسْلِيمِ فَإِنْ لم يُطَالِبْهَا فَالتَّقْصِيرُ جاء من قِبَلِهِ فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهَا وَإِنْ كانت لَا تَقْدِرُ على التَّخْلِيَةِ فَالتَّسْلِيمُ فَاتَ بِمَعْنًى من قِبَلِهَا وهو مُمَاطَلَتُهَا فَلَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ وَلَوْ حُبِسَتْ بَعْدَ النُّقْلَةِ لم تَبْطُلْ نَفَقَتُهَا لِمَا قُلْنَا في الْمَرِيضَةِ وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ في الْحَبْسِ مَحْمُولٌ على ما إذَا كانت مَحْبُوسَةً لَا تَقْدِرُ على قَضَائِهِ فإما إذَا كانت قَادِرَةً على الْقَضَاءِ فلم تَقْضِ فَلَا نَفَقَةَ لها وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّهَا إذَا لم تَقْضِ مع الْقُدْرَةِ على الْقَضَاءِ صَارَتْ كَأَنَّهَا حَبَسَتْ نَفْسَهَا فَتَصِيرُ بِمَعْنَى النَّاشِزَةِ وَلَوْ فَرَضَ الْقَاضِي لها النَّفَقَةَ ثُمَّ أَخَذَهَا رَجُلٌ كَارِهَةً فَهَرَبَ بها شَهْرًا أو غَصَبَهَا غَاصِبٌ لم يَكُنْ لها نَفَقَةٌ في الْمُدَّةِ التي مَنَعَهَا لِفَوَاتِ التَّسْلِيمِ لَا لِمَعْنًى من جِهَةِ الزَّوْجِ‏.‏

وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ لها النَّفَقَةَ لِأَنَّ الْفَوَاتَ ما جاء من قِبَلِهَا وَالرَّتْقَاءُ وَالْقَرْنَاءُ لَهُمَا النَّفَقَةُ بَعْدَ النُّقْلَةِ وَقَبْلَهَا إذَا طَلَبَتَا ولم يَظْهَرْ مِنْهُمَا الإمتاع ‏[‏الامتناع‏]‏ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ لَهُمَا النَّفَقَةَ بَعْدَ الإنتقال فَأَمَّا قبل الإنتقال فَلَا نَفَقَةَ لَهُمَا وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ أَنَّ التَّسْلِيمَ الذي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ لم يُوجَدْ في حَقِّهِمَا قبل الإنتقال وَبَعْدَهُ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا قَبِلَهُمَا مع الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ فَقَدْ رضي بِالتَّسْلِيمِ الْقَاصِرِ كما قال في الْمَرِيضَةِ إلَّا أَنَّ هَهُنَا قال لَا يَجُوزُ له أَنْ يَرُدَّهُمَا وقال في الصَّغِيرَةِ التي يَنْتَفِعُ بها في الْخِدْمَةِ وَالْمَرِيضَةِ التي يَسْتَأْنِسُ بها أَنَّ له أَنْ يَرُدَّهُمَا وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ في حَقِّهِمَا مُوجِبًا تَسْلِيمَ مِثْلِهِمَا وهو التَّمْكِينُ من الِاسْتِمْتَاعِ دُونَ الْوَطْءِ وَهَذَا النَّوْعُ من التَّسْلِيمِ يَكْفِي لِاسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ كَتَسْلِيمِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْمُحْرِمَةِ وَالصَّائِمَةِ مع ما أَنَّ التَّسْلِيمَ الْمُطْلَقَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُمَا بِوَاسِطَةِ إزَالَةِ الْمَانِعِ من الرَّتَقِ وَالْقَرَنِ بِالْعِلَاجِ فَيُمْكِنُ الإنتفاع بِهِمَا وطأ وَلَوْ حَجَّتْ الْمَرْأَةُ حَجَّةَ فَرِيضَةٍ فَإِنْ كان ذلك قبل النُّقْلَةِ فَإِنْ حَجَّتْ بِلَا مَحْرَمٍ وَلَا زَوْجٍ فَهِيَ نَاشِزَةٌ وَإِنْ حَجَّتْ مع مَحْرَمٍ لها دُونَ الزَّوْجِ فَلَا نَفَقَةَ لها في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّهَا امْتَنَعَتْ من التَّسْلِيمِ بَعْدَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ فَصَارَتْ كَالنَّاشِزَةِ وَإِنْ كانت انْتَقَلَتْ إلَى مَنْزِلِ الزَّوْجِ ثُمَّ حَجَّتْ مع مَحْرَمٍ لها دُونَ الزَّوْجِ فَقَدْ قال أبو يُوسُفَ لها النَّفَقَةُ وقال مُحَمَّدٌ لَا نَفَقَةَ لها‏.‏

وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ التَّسْلِيمَ قد فَاتَ بِأَمْرٍ من قِبَلِهَا وهو خُرُوجُهَا فَلَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ كَالنَّاشِزَةِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ التَّسْلِيمَ الْمُطْلَقَ قد حَصَلَ بِالِانْتِقَالِ إلَى مَنْزِلِ الزَّوْجِ ثُمَّ فَاتَ بِعَارِضِ أَدَاءِ فَرْضٍ وَهَذَا لَا يُبْطِلُ النَّفَقَةَ كما لو انْتَقَلَتْ إلَى مَنْزِلِ زَوْجِهَا ثُمَّ لَزِمَهَا صَوْمُ رَمَضَانَ أو نَقُولُ حَصَلَ التَّسْلِيمُ الْمُطْلَقُ بِالِانْتِقَالِ ثُمَّ فَاتَ لِعُذْرٍ فَلَا تَسْقُطُ النَّفَقَةُ كَالْمَرِيضَةِ ثُمَّ إذَا وَجَبَتْ لها النَّفَقَةُ على أَصْلِ أبي يُوسُفَ يَفْرِضُ لها الْقَاضِي نَفَقَةَ الْإِقَامَةِ لَا نَفَقَةَ السَّفَرِ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا نَفَقَةُ الْحَضَرِ فَأَمَّا زِيَادَةُ المؤونة ‏[‏المؤنة‏]‏ التي تَحْتَاجُ إلَيْهَا الْمَرْأَةُ في السَّفَرِ من الْكِرَاءِ وَنَحْوِ ذلك فَهِيَ عليها لَا عليه لِأَنَّهَا لِأَدَاءِ الْفَرْضِ وَالْفَرْضُ عليها فَكَانَتْ تِلْكَ المؤونة ‏[‏المؤنة‏]‏ عليها لَا عليه كما لو مَرِضَتْ في الْحَضَرِ كانت الْمُدَاوَاةُ عليها لَا على الزَّوْجِ فَإِنْ جَاوَرَتْ بِمَكَّةَ أو أَقَامَتْ بها بَعْدَ أَدَاءِ الْحَجِّ إقَامَةً لَا تَحْتَاجُ إلَيْهَا سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا لِأَنَّهَا غَيْرُ مَعْذُورَةٍ في ذلك فَصَارَتْ كَالنَّاشِزَةِ فَإِنْ طَلَبَتْ نَفَقَةَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ قَدْرَ الذَّهَابِ وَالْمَجِيءِ لم يَكُنْ على الزَّوْجِ ذلك وَلَكِنْ يُعْطِيهَا نَفَقَةَ شَهْرٍ وَاحِدٍ فإذا عَادَتْ أَخَذَتْ ما بَقِيَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عليه لها نَفَقَةُ الْإِقَامَةِ لَا نَفَقَةُ السَّفَرِ وَنَفَقَةُ الْإِقَامَةِ تُفْرَضُ لها كُلَّ شَهْرٍ فَشَهْرٍ‏.‏

وَهَذِهِ الْجُمْلَةِ لَا تَتَفَرَّعُ على أَصْلِ مُحَمَّدٍ هذا إذَا لم يَخْرُجْ الزَّوْجُ مَعَهَا إلَى الْحَجِّ فَأَمَّا إذَا خَرَجَ فَلَهَا النَّفَقَةُ بِلَا خِلَافٍ لِوُجُودِ التَّسْلِيمِ الْمُطْلَقِ لِإِمْكَانِ الِانْتِفَاعِ بها وطأ وَاسْتِمْتَاعًا في الطَّرِيقِ فَصَارَتْ كَالْمُقِيمَةِ في مَنْزِلِهِ وَلَوْ آلَى منها أو ظَاهَرَ منها فَلَهَا النَّفَقَةُ لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ قَائِمٌ وَالتَّسْلِيمَ مَوْجُودٌ وَلِتَمَكُّنِهِ من وَطْئِهَا والإستمتاع بها بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ في الْإِيلَاءِ وَبِوَاسِطَةِ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ في الظِّهَارِ فَوُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَشَرْطُ وُجُوبِهَا فَتَجِبُ وَلَوْ تَزَوَّجَ أُخْتَ امْرَأَتِهِ أو عَمَّتَهَا أو خَالَتَهَا ولم يَعْلَمْ بِذَلِكَ حتى دخل بها فُرِّقَ بينهما ‏[‏بينهم‏]‏ وَوَجَبَ عليه أَنْ يَعْتَزِلَهَا مُدَّةَ عِدَّةِ أُخْتِهَا فَلِامْرَأَتِهِ النَّفَقَةُ لوجد ‏[‏لوجود‏]‏ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَشَرْطِهِ وهو التَّسْلِيمُ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ الِانْتِفَاعُ بها بِعَارِضٍ يَزُولُ فَأَشْبَهَ الْحَيْضَ وَالنِّفَاسَ وَصَوْمَ رَمَضَانَ وَلَا نَفَقَةَ لِأُخْتِهَا وَإِنْ وَجَبَتْ عليها الْعِدَّةُ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ من نِكَاحٍ فَاسِدٍ‏.‏

وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يَخْرُجُ ما إذَا تَزَوَّجَ حُرٌّ أو عَبْدٌ أَمَةً أو قِنَّةً أو مُدَبَّرَةً أو أُمَّ وَلَدٍ أَنَّهُ إنْ بَوَّأَهَا الْمَوْلَى تَجِبُ النَّفَقَةُ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ وهو حَقُّ الْحَبْسِ وَشَرْطُهُ وهو التَّسْلِيمُ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ التَّبْوِئَةِ لِأَنَّ التَّبْوِئَةَ هو أَنْ يُخَلِّيَ الْمَوْلَى بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا في مَنْزِلِ زَوْجِهَا لَا يَسْتَخْدِمُهَا فإذا كانت مَشْغُولَةً بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى لم تَكُنْ مَحْبُوسَةً عِنْدَ الزَّوْجِ وَلَا مُسَلَّمَةً إلَيْهِ وَلَا يُجْبَرُ الْمَوْلَى على التَّبْوِئَةِ لِأَنَّ خِدْمَتَهَا حَقُّ الْمَوْلَى فَلَا يُجْبَرُ الْإِنْسَانُ على إيفَاءِ حَقِّ نَفْسِهِ لِغَيْرِهِ فَإِنْ بَوَّأَهَا الْمَوْلَى ثُمَّ بَدَا له أَنْ يَسْتَخْدِمَهَا فَلَهُ ذلك لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ خِدْمَتَهَا حَقُّ الْمَوْلَى لِأَنَّ مَنَافِعَ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ بَقِيَتْ على مِلْكِهِ وَإِنَّمَا أَعَارَهَا لِلزَّوْجِ بِالتَّبْوِئَةِ وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَسْتَرِدَّ عَارِيَّتَهُ وَلَا نَفَقَةَ على الزَّوْجِ مُدَّةَ الِاسْتِخْدَامِ لِفَوَاتِ التَّسْلِيمِ فيها من جِهَةِ الْمَوْلَى وَلَوْ بَوَّأَهَا مَوْلَاهَا بَيْتَ الزَّوْجِ فَكَانَتْ تَجِيءُ في أَوْقَاتٍ إلَى مَوْلَاهَا فَتَخْدُمُهُ من غَيْرِ أَنْ يَسْتَخْدِمَهَا قالوا لَا تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا لِأَنَّ الِاسْتِرْدَادَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالِاسْتِخْدَامِ ولم يُوجَدْ وَلِأَنَّ هذا الْقَدْرَ من الْخِدْمَةِ لَا يَقْدَحُ في التَّسْلِيمِ كَالْحُرَّةِ إذَا خَرَجَتْ إلَى مَنْزِلِ أَبِيهَا وَإِنْ كانت مُكَاتَبَةً تَزَوَّجَتْ بِإِذْنِ الْمَوْلَى حتى جَازَ الْعَقْدُ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَلَا يُشْتَرَطُ التَّبْوِئَةُ لِأَنَّ خِدْمَتَهَا لَيْسَتْ حَقَّ الْمَوْلَى إذْ لَا حَقَّ لِلْمَوْلَى في مَنَافِعِهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ ليس لِلْمَوْلَى أَنْ يَسْتَخْدِمَهَا فَكَانَتْ في مَنَافِعِهَا كَالْحُرَّةِ فَيُجْبَرُ الْمَوْلَى على التَّسْلِيمِ وَيَجِبُ على الزَّوْجِ النَّفَقَةُ وَالْعَبْدُ إذَا تَزَوَّجَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى حُرَّةً أو أَمَةً فَهُوَ في وُجُوبِ النَّفَقَةِ كَالْحُرِّ لِاسْتِوَائِهِمَا في سَبَبِ الْوُجُوبِ وهو حَقُّ الْحَبْسِ وَشَرْطُهُ وهو التَّسْلِيمُ وَلِهَذَا اسْتَوَيَا في وُجُوبِ الْمَهْرِ إلَّا أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّفَقَةَ إذَا صَارَتْ مَفْرُوضَةً على الْعَبْدِ تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ يُبَاعُ فيها إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى فَيَسْقُطَ حَقُّ الْغَرِيمِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ وَيَبْدَأُ بها قبل الْغَلَّةِ لِمَوْلَاهُ فَإِنْ كان الْمَوْلَى ضَرَبَ عليه ضَرِيبَةً فإن نَفَقَةَ امْرَأَتِهِ تُقَدَّمُ على ضَرِيبَةِ مَوْلَاهُ لِأَنَّهَا بِالْفَرْضِ صَارَتْ دَيْنًا في رَقَبَتِهِ حتى يُبَاعَ بها فَأَشْبَهَ سَائِرَ الدُّيُونِ بِخِلَافِ الْغَلَّةِ فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ لِلْمَوْلَى على عَبْدِهِ دَيْنٌ في الْحَقِيقَةِ فَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ قبل الْبَيْعِ بَطَلَتْ النَّفَقَةُ وَلَا يُؤْخَذُ الْمَوْلَى بِشَيْءٍ لِفَوَاتِ مَحَلِّ التَّعْلِيقِ فَيَبْطُلُ التَّعْلِيقُ كَالْعَبْدِ الْمَرْهُونِ إذَا هَلَكَ يَبْطُلُ الدَّيْنُ الذي تَعَلَّقَ بِهِ‏.‏

وَكَذَلِكَ إذَا قُتِلَ الْعَبْدُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ إذَا قُتِلَ كانت النَّفَقَةُ في قِيمَتِهِ وَجْهُ ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْقِيمَةَ قَامَتْ مَقَامَ الْعَبْدِ لِأَنَّهَا بَدَلُهُ فَتَقُومُ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هو كما في سَائِرِ الدُّيُونِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْقِيمَةَ إنَّمَا تُقَامُ مَقَامَ الرَّقَبَةِ في الدُّيُونِ الْمُطْلَقَةِ لَا فِيمَا يَجْرِي مَجْرَى الصِّلَاتِ وَالنَّفَقَةُ تَجْرِي مَجْرَى الصلاة ‏[‏الصلات‏]‏ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا لِمَا نَذْكُرُ إن شاء الله تعالى‏.‏ فَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ قبل الْقَبْضِ كَسَائِرِ الصلاة ‏[‏الصلات‏]‏ وَلِهَذَا لو كان الزَّوْجُ حُرًّا فَقُتِلَ خَطَأً سَقَطَتْ عِنْدَنَا وَلَا تُقَامُ الدِّيَةُ مَقَامَهُ فَكَذَا إذَا كان عَبْدًا وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ لِمَا قُلْنَا غير أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُبَاعُونَ لِأَنَّ دُيُونَهُمْ تَتَعَلَّقُ بِأَكْسَابِهِمْ لَا بِرِقَابِهِمْ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهَا من رِقَابِهِمْ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ بِالْبَيْعِ وَرِقَابُهُمْ لَا تَحْتَمِلُ الْبَيْعَ‏.‏

وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَعِنْدَنَا يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ كَالْقِنِّ لقصور ‏[‏لتصور‏]‏ الِاسْتِيفَاءِ من رَقَبَتِهِ لِاحْتِمَالِ الْعَجْزِ لِأَنَّهُ إذَا عَجَزَ يَعُودُ قِنًّا فَيَسْعَى فيها ما دَامَ مُكَاتَبًا فإذا قضى بِعَجْزِهِ وَصَارَ قِنًّا يُبَاعُ فيها إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى كما في الْكتابةِ وَأَمَّا الْمُعْتَقُ الْبَعْضِ فَهُوَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ فيه الْعَجْزُ وَالْبَيْعُ في الدَّيْنِ فَيَسْعَى في نَفَقَتِهَا وَعِنْدَهُمَا هو حُرٌّ عليه دَيْنٌ وَلَا يَجِبُ على الْعَبْدِ نَفَقَةُ وَلَدِهِ سَوَاءٌ كان من امْرَأَةٍ حُرَّةٍ أو أَمَةٍ لِأَنَّهُ إنْ كان من حُرَّةٍ يَكُونُ حُرًّا فَلَا يَجِبُ على الْعَبْدِ نَفَقَةُ الْحُرِّ وَتَكُونُ على الْأُمِّ نَفَقَتُهُ إنْ كانت غَنِيَّةً وَإِنْ كانت مُحْتَاجَةً فَعَلَى من يَرِثُ الْوَلَدَ من الْقَرَابَةِ وَإِنْ كان من أَمَةٍ فَيَكُونُ عَبْدًا لِمَوْلَاهَا فَلَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ نَفَقَتُهُ‏.‏

وَكَذَلِكَ الْحُرُّ إذَا تَزَوَّجَ أَمَةً فَوَلَدَتْ له أَوْلَادًا فَنَفَقَةُ الْأَوْلَادِ على مولى الْأَمَةِ لِأَنَّهُمْ مَمَالِيكُهُ وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ في ذلك سَوَاءٌ وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ في هذا كَالْأَمَةِ الْقِنَّةِ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ كان مولى الْأَمَةِ في هذه الْمَسَائِلِ فَقِيرًا وَالزَّوْجُ أَبَ الْوَلَدِ غَنِيًّا لَا يُؤْمَرُ الْأَبُ بِالنَّفَقَةِ على وَلَدِهِ بَلْ إمَّا أَنْ يَبِيعَهُ مَوْلَاهُ أو يُنْفِقَ عليه إنْ كان من أَمَةٍ قِنَّةٍ وَإِنْ كان من مُدَبَّرَةٍ أو أُمِّ وَلَدٍ يُنْفِقُ الْأَبُ عليه ثُمَّ يَرْجِعُ على الْمَوْلَى إذَا أَيْسَرَ لِتَعَذُّرِ الْجَبْرِ على الْبَيْعِ هَهُنَا لِعَدَمِ قَبُولِ الْمَحَلِّ فإما إذَا كانت مُكَاتَبَةً فَنَفَقَةُ أَوْلَادِهَا لَا تَجِبُ على زَوْجِهَا وَإِنَّمَا تَجِبُ على الْأُمِّ الْمُكَاتَبَةِ سَوَاءٌ كان الْأَبُ حُرًّا أو عَبْدًا لِأَنَّ وَلَدَ الْمُكَاتَبَةِ مِلْكُ الْمَوْلَى رَقَبَةً وهو حَقُّ الْمُكَاتَبَةِ كَسْبًا أَلَا تَرَى أنها تَسْتَعِينُ بإكسابه في رَقَبَتِهَا وَعِتْقِهَا وإذا كانت أَكْسَابُهُ حَقًّا لها كانت نَفَقَتُهُ عليها لِأَنَّ نَفَقَةَ الْإِنْسَانِ تَتْبَعُ كَسْبَهُ قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّ أَطْيَبَ ما يَأْكُلُ الرَّجُلُ من كَسْبِهِ وَإِنْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ من عَبْدِهِ فَلَهَا النَّفَقَةُ على الْعَبْدِ لِأَنَّ الْبِنْتَ يَجِبُ لها على أَبِيهَا دَيْنٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَجِبَ على عبد أَبِيهَا‏.‏ وَإِنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ من عَبْدِهِ فَنَفَقَتُهُمَا جميعا على الْمَوْلَى لِأَنَّهُمَا جميعا مِلْكُ الْمَوْلَى وَاَللَّهُ عز وجل أعلم‏.‏

وَالْكتابيَّةُ في اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ على زَوْجِهَا الْمُسْلِمِ كَالْمُسْلِمَةِ لِاسْتِوَائِهِمَا في سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَشَرْطِهِ وَالذِّمِّيُّ في وُجُوبِ النَّفَقَةِ عليه لِزَوْجَتِهِ التي لَيْسَتْ من مَحَارِمِهِ كَالْمُسْلِمِ لِاسْتِوَائِهِمَا في سَبَبِ الْوُجُوبِ وَشَرْطِهِ وَلِأَنَّ ما ذَكَرْنَا من دَلَائِلِ الْوُجُوبِ لَا يُوجِبُ الْفصل بين الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ في النَّفَقَةِ وَلِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وإذا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ فَأعلم‏.‏هُمْ أَنَّ لهم ما لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ ما على الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى الْمُسْلِمِ نَفَقَةُ زَوْجَتِهِ فَهَكَذَا على الذِّمِّيِّ وَأَمَّا إذَا كانت من مَحَارِمِهِ فَقَدْ قال أبو حَنِيفَةَ أنها إذَا طَلَبَتْ النَّفَقَةَ فإن الْقَاضِيَ يَقْضِي بِالنَّفَقَةِ لها‏.‏

وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَقْضِي بِنَاءً على أَنَّ هذا النِّكَاحَ فَاسِدٌ عِنْدَهُمْ وَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّهُ صَحِيحٌ عِنْدَهُمْ حتى قال إنَّهُمَا يُقَرَّانِ عليه وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِمَا قبل أَنْ يَتَرَافَعَا أو يُسْلِمَ أَحَدُهُمَا وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ هذا النِّكَاحَ فَاسِدٌ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا أَوْجَبَ أبو حَنِيفَةَ النَّفَقَةَ مع فَسَادِ هذا النِّكَاحِ لِأَنَّهُمَا يُقَرَّانِ عليه مع فَسَادِهِ عِنْدَهُ فإن أَبَا حَنِيفَةَ قال إنِّي أَفْرِضُ عليه النَّفَقَةَ لِكُلِّ إمرأة أُقِرَّتْ على نِكَاحِهَا جَائِزًا كان النِّكَاحُ عِنْدِي أو بَاطِلًا‏.‏

وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّهُ على نِكَاحِهَا فَقَدْ أَلْحَقَ هذا النِّكَاحَ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ في حَقِّ وُجُوبِ النَّفَقَةِ وقد يُلْحَقُ النِّكَاحُ الْفَاسِدُ بِالصَّحِيحِ في بَعْضِ الْأَحْكَامِ من النَّسَبِ وَالْعِدَّةِ وَغَيْرِ ذلك وَيَسْتَوِي في اسْتِحْقَاقِ هذه النَّفَقَةِ الْمُعْسِرَةُ وَالْمُوسِرَةُ فَتَسْتَحِقُّ الزَّوْجَةُ النَّفَقَةَ على زَوْجِهَا وَإِنْ كانت مُوسِرَةً لِاسْتِوَائِهِمَا في سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَشَرْطِهِ وَلِأَنَّ هذه النَّفَقَةَ لها شَبَهٌ بِالْأَعْوَاضِ فَيَسْتَوِي فيها الْفَقِيرُ وَالْغَنِيُّ كَنَفَقَةِ الْقَاضِي وَالْمُضَارِبِ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الْمَحَارِمِ إنها لَا تَجِبُ لِلْغَنِيِّ لِأَنَّهَا تَجِبُ صِلَةً مَحْضَةً لِمَكَانِ الْحَاجَةِ فَلَا تَجِبُ عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ وَتَجِبُ هذه النَّفَقَةُ من غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي لَكِنَّهَا لَا تَصِيرُ دَيْنًا في الذِّمَّةِ إلَّا بِقَضَاءٍ أو رِضًا على ما نَذْكُرُ إن شاء الله تعالى‏.‏ بِخِلَافِ نَفَقَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ من غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَنَفَقَةُ الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ تَجِبُ من غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَالْفَرْقُ بين هذه الْجُمْلَةِ يُذْكَرُ في نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ إن شاء الله تعالى‏.‏

وَلَا نَفَقَةَ لِلنَّاشِزَةِ لِفَوَاتِ التَّسْلِيمِ بِمَعْنًى من جِهَتِهَا وهو النُّشُوزُ وَالنُّشُوزُ في النِّكَاحِ أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا من الزَّوْجِ بِغَيْرِ حَقٍّ خَارِجَةً من مَنْزِلِهِ بِأَنْ خَرَجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَغَابَتْ أو سَافَرَتْ فَأَمَّا إذَا كانت في مَنْزِلِهِ وَمَنَعَتْ نَفْسَهَا في رِوَايَةٍ فَلَهَا النَّفَقَةُ لِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ لِحَقِّهِ مُنْتَفِعٌ بها ظَاهِرًا وَغَالِبًا فَكَانَ مَعْنَى التَّسْلِيمِ حَاصِلًا وَالنُّشُوزُ في الْعِدَّةِ أَنْ تَخْرُجَ من بَيْتِ الْعِدَّةِ مُرَاغِمَةً لِزَوْجِهَا أو تَخْرُجَ لِمَعْنًى من قِبَلِهَا وقد روى أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ كانت تبذو ‏[‏تبدو‏]‏ على أَحْمَائِهَا فَنَقَلَهَا النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَى بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ ولم يَجْعَلْ لها نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ كان بِمَعْنًى من قِبَلِهَا فَصَارَتْ كَأَنَّهَا خَرَجَتْ بِنَفْسِهَا مُرَاغِمَةً لِزَوْجِهَا‏.‏

وَأَمَّا الثَّانِي وهو الشَّرْطُ الذي يَخُصُّ نَفَقَةَ الْعِدَّةِ فَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ وُجُوبُ الْعِدَّةِ بِفُرْقَةٍ حَاصِلَةٍ من قِبَلِهَا بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ ليس بِشَرْطٍ وقد مَرَّ وَجْهُ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَكُلُّ إمرأة لها النَّفَقَةُ فَلَهَا الْكِسْوَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الْمَوْلُودِ له رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏ وَغَيْرِ ذلك من النُّصُوصِ التي ذَكَرْنَاهَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَلِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِهِمَا لَا يَخْتَلِفُ وَكَذَا شَرْطُ الْوُجُوبِ وَيَجِبَانِ على الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ لِأَنَّ دَلِيلَ الْوُجُوبِ لَا يَفصل وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أعلم‏.‏ وَكُلُّ امْرَأَةٍ لها النَّفَقَةُ لها السُّكْنَى لِقَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏أَسْكِنُوهُنَّ من حَيْثُ سَكَنْتُمْ من وُجْدِكُمْ‏}‏‏.‏

وَقَرَأَ ابن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه‏:‏ ‏[‏أَسْكِنُوهُنَّ من حَيْثُ سَكَنْتُمْ وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ من وُجْدِكُمْ‏]‏ وَلِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا في سَبَبِ الْوُجُوبِ وَشَرْطِهِ وهو ما ذَكَرْنَا فَيَسْتَوِيَانِ في الْوُجُوبِ وَيَسْتَوِي في وُجُوبِهِمَا أَصْلُ الْوُجُوبِ الْمُوسِرُ وَالْمُعْسِرُ لِأَنَّ دَلَائِلَ الْوُجُوبِ لَا تُوجِبُ الْفصل وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ في مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْهُمَا وَسَنُبَيِّنُهُ إن شاء الله تعالى‏.‏ في مَوْضِعِهِ وَلَوْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يُسْكِنَهَا مع ضَرَّتِهَا أو مع أَحْمَائِهَا كَأُمِّ الزَّوْجِ وَأُخْتِهِ وَبِنْتِهِ من غَيْرِهَا وَأَقَارِبِهِ فَأَبَتْ ذلك عليه أَنْ يُسْكِنَهَا في مَنْزِلٍ مُفْرَدٍ لِأَنَّهُنَّ رُبَّمَا يُؤْذِينَهَا ويضرون ‏[‏ويضررن‏]‏ بها في الْمُسَاكَنَةِ وَإِبَاؤُهَا دَلِيلُ الْأَذَى وَالضَّرَرِ وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُجَامِعَهَا وَيُعَاشِرَهَا في أَيِّ وَقْتٍ يَتَّفِقُ وَلَا يُمْكِنُهُ ذلك إذَا كان مَعَهُمَا ثَالِثٌ حتى لو كان في الدَّارِ بُيُوتٌ فَفَرَّغَ لها بَيْتًا وَجَعَلَ لِبَيْتِهَا غَلْقًا على حِدَةٍ قالوا إنَّهَا ليس لها أَنْ تُطَالِبَهُ بِبَيْتٍ آخَرَ‏.‏

وَلَوْ كانت في مَنْزِلِ الزَّوْجِ وَلَيْسَ مَعَهَا أَحَدٌ يُسَاكِنُهَا فَشَكَتْ إلَى الْقَاضِي أَنَّ الزَّوْجَ يَضْرِبُهَا وَيُؤْذِيهَا سَأَلَ الْقَاضِي جِيرَانَهَا فَإِنْ أَخْبَرُوا بِمَا قالت وَهُمْ قَوْمٌ صَالِحُونَ فَالْقَاضِي يُؤَدِّبُهُ وَيَأْمُرُهُ بِأَنْ يُحْسِنَ إلَيْهَا وَيَأْمُرَ جِيرَانَهُ أَنْ يَتَفَحَّصُوا عنها وَإِنْ لم يَكُنْ الْجِيرَانُ قَوْمًا صَالِحِينَ أَمَرَهُ الْقَاضِي أَنْ يُحَوِّلَهَا إلَى جِيرَانٍ صَالِحِينَ فَإِنْ أَخْبَرُوا الْقَاضِي بِخِلَافِ ما قالت أَقَرَّهَا هُنَاكَ ولم يُحَوِّلْهَا وَلِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَ أَبَاهَا وَأُمَّهَا وَوَلَدَهَا من غَيْرِهِ وَمَحَارِمَهَا من الدُّخُولِ عليها لِأَنَّ الْمَنْزِلَ مَنْزِلُهُ فَكَانَ له أَنْ يَمْنَعَ من شَاءَ وَلَيْسَ له أَنْ يَمْنَعَهُمْ من النَّظَرِ إلَيْهَا وَكَلَامِهَا خَارِجِ الْمَنْزِلِ لِأَنَّ ذلك ليس بِحَقٍّ له إلَّا أَنْ يَكُونَ في ذلك فِتْنَةٌ بِأَنْ يَخَافَ عليها الْفَسَادَ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُمْ من ذلك أَيْضًا‏.‏

فصل بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ منها

وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ منها فَالْكَلَامُ في هذا الْفصل في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ ما تُقَدَّرُ بِهِ هذه النَّفَقَةُ وَالثَّانِي في بَيَانِ من تُقَدَّرُ بِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فيه قال أَصْحَابُنَا هذه النَّفَقَةُ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ بِنَفْسِهَا بَلْ بِكِفَايَتِهَا وقال الشَّافِعِيُّ مُقَدَّرَةٌ بِنَفْسِهَا على الْمُوسِرِ مُدَّانِ وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ مُدٌّ وَنِصْفٌ وَعَلَى الْمُعْسِرِ نِصْفُ مُدٍّ وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ من سَعَتِهِ‏}‏ أَيْ قَدْرَ سَعَتِهِ فَدَلَّ أنها مُقَدَّرَةٌ وَلِأَنَّهُ إطْعَامٌ وَاجِبٌ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا كَالْإِطْعَامِ في الْكَفَّارَاتِ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا لِأَنَّهَا تَجِبُ بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ عِنْدِي وَمُقَابَلَةِ الْحَبْسِ عِنْدَكُمْ فَكَانَتْ مُقَدَّرَةً كَالثَّمَنِ في البيع ‏[‏المبيع‏]‏ وَالْمَهْرِ في النِّكَاحِ‏.‏ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الْمَوْلُودِ له رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏ مُطْلَقًا عن التَّقْدِيرِ فَمَنْ قَدَّرَ فَقَدْ خَالَفَ النَّصَّ وَلِأَنَّهُ أَوْجَبَهَا بِاسْمِ الرِّزْقِ وَرِزْقُ الْإِنْسَانِ كِفَايَتُهُ في الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ كَرِزْقِ الْقَاضِي وَالْمُضَارِبِ‏.‏

وَرُوِيَ أَنَّ هِنْدَ امْرَأَةَ أبي سُفْيَانَ قالت يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وأنه لَا يُعْطِينِي ما يَكْفِينِي وَوَلَدِي فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم‏:‏ «خُذِي من مَالِ أبي سُفْيَانَ ما يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ» نَصَّ عليه أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ على الْكِفَايَةِ فَدَلَّ أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ مُقَدَّرَةٌ بِالْكِفَايَةِ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِكَوْنِهَا مَحْبُوسَةً بِحَقِّ الزَّوْجِ مَمْنُوعَةً عن الْكَسْبِ لِحَقِّهِ فَكَانَ وُجُوبُهَا بِطَرِيقِ الْكِفَايَةِ كَنَفَقَةِ الْقَاضِي َالْمُضَارِبِ وَأَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ حُجَّةٌ عليه لِأَنَّ فيها أَمْرَ الذي عِنْدَهُ السَّعَةُ بِالْإِنْفَاقِ على قَدْرِ السَّعَةِ مُطْلَقًا عن التَّقْدِيرِ بِالْوَزْنِ فَكَانَ التَّقْدِيرُ بِهِ تَقْيِيدًا لِمُطْلَقٍ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَقَوْلُهُ إنَّهُ إطْعَامٌ وَاجِبٌ يَبْطُلُ بِنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ فإنه إطْعَامٌ وَاجِبٌ وَهِيَ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ بِنَفْسِهَا بَلْ بِالْكِفَايَةِ وَالتَّقْدِيرُ بِالْوَزْنِ في الْكَفَّارَاتِ ليس لِكَوْنِهَا نَفَقَةً وَاجِبَةً بَلْ لِكَوْنِهَا عِبَادَةً مَحْضَةً لِوُجُوبِهَا على وَجْهِ الصَّدَقَةِ كَالزَّكَاةِ فَكَانَتْ مُقَدَّرَةً بِنَفْسِهَا كَالزَّكَاةِ وَوُجُوبُ هذه النَّفَقَةِ ليس على وَجْهِ الصَّدَقَةِ بَلْ على وَجْهِ الْكِفَايَةِ فَتَتَقَدَّرُ بِكِفَايَتِهَا كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ أنها وَجَبَتْ بَدَلًا مَمْنُوعٌ وَلَسْنَا نَقُولُ أنها تَجِبُ بِمُقَابَلَةِ الْحَبْسِ بَلْ تَجِبُ جَزَاءً على الْحَبْسِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً بِمُقَابَلَةِ مِلْكِ النِّكَاحِ لِمَا ذَكَرْنَا وإذا كان وُجُوبُهَا على سَبِيلِ الْكِفَايَةِ فَيَجِبُ على الزَّوْجِ من النَّفَقَةِ قَدْرُ ما يَكْفِيهَا من الطَّعَامِ وَالْإِدَامِ وَالدُّهْنِ لِأَنَّ الْخُبْزَ لَا يُؤْكَلُ عَادَةً إلَّا مَأْدُومًا وَالدُّهْنُ لَا بُدَّ منه لِلنِّسَاءِ وَلَا تُقَدَّرُ نَفَقَتُهَا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ على أَيِّ سِعْرٍ كانت لِأَنَّ فيه إضْرَارًا بِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ إذْ السِّعْرُ قد يَغْلُو وقد يَرْخُصُ بَلْ تُقَدَّرُ لها على حَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَسْعَارِ غَلَاءً وَرُخْصًا رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ وَيَجِبُ عليه من الْكِسْوَةِ في كل سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ صَيْفِيَّةً وَشَتْوِيَّةً لِأَنَّهَا كما تَحْتَاجُ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ تَحْتَاجُ إلَى اللِّبَاسِ لِسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَلِدَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَيَخْتَلِفُ ذلك بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَالشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ على ما نَذْكُرُ إن شاء الله تعالى‏.‏

وَذَكَرَ في كتاب النِّكَاحِ أَنَّ الْمُعْسِرَ يُفْرَضُ عليه خَمْسَةُ دَرَاهِمَ في الشَّهْرِ وَالْمُوسِرَ عَشَرَةٌ وَذَلِكَ مَحْمُولٌ على اعْتِبَارِ قَرَارِ السِّعْرِ في الْوَقْتِ وَلَوْ جاء الزَّوْجُ بِطَعَامٍ يَحْتَاجُ إلَى الطَّبْخِ وَالْخَبْزِ فَأَبَتْ الْمَرْأَةُ الطَّبْخَ وَالْخَبْزَ يَعْنِي بِأَنْ تَطْبُخَ وَتَخْبِزَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قَسَمَ الْأَعْمَالَ بين عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ رضي اللَّهُ عنهما فَجَعَلَ أَعْمَالَ الْخَارِجِ على عَلِيٍّ وَأَعْمَالَ الدَّاخِلِ على فَاطِمَةَ رضي اللَّهُ عنهما وَلَكِنَّهَا لَا تُجْبَرُ على ذلك إنْ أَبَتْ وَيُؤْمَرُ الزَّوْجُ أَنْ يَأْتِيَ لها بِطَعَامٍ مُهَيَّأٍ وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِلطَّبْخِ وَالْخَبْزِ لم يَجُزْ وَلَا يَجُوزُ لها أَخْذُ الأجرةِ على ذلك لِأَنَّهَا لو أَخَذَتْ الأجرةَ لَأَخَذَتْهَا على عَمَلٍ وَاجِبٍ عليها في الْفَتْوَى فَكَانَ في مَعْنَى الرِّشْوَةِ فَلَا يَحِلُّ لها الْأَخْذُ‏.‏

وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أبو اللَّيْثِ أَنَّ هذا إذَا كان بها عِلَّةٌ لَا تَقْدِرُ على الطَّبْخِ وَالْخَبْزِ أو كانت من بَنَاتِ الْأَشْرَافِ فَأَمَّا إذَا كانت تَقْدِرُ على ذلك وَهِيَ مِمَّنْ تَخْدُمُ بِنَفْسِهَا تُجْبَرُ على ذلك وَإِنْ كان لها خَادِمٌ يَجِبُ لِخَادِمِهَا أَيْضًا النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ إذَا كانت مُتَفَرِّغَةً لِشُغُلِهَا وَلِخِدْمَتِهَا لَا شُغْلَ لها غَيْرُهَا لِأَنَّ أُمُورَ الْبَيْتِ لَا تَقُومُ بها وَحْدَهَا فَتَحْتَاجُ إلَى خَادِمٍ وَلَا يَجِبُ عليه لِأَكْثَرَ من خَادِمٍ وَاحِدٍ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وعند أبي يُوسُفَ يَجِبُ لِخَادِمَيْنِ وَلَا يَجِبُ أَكْثَرُ من ذلك وَرُوِيَ عنه رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كانت يَجِلُّ مِقْدَارُهَا عن خِدْمَةِ خَادِمٍ وَاحِدٍ وَتَحْتَاجُ إلَى أَكْثَرَ من ذلك يَجِبُ لِأَكْثَرَ من ذلك بِالْمَعْرُوفِ وَبِهِ أَخَذَ الطَّحَاوِيُّ‏.‏

وَجْهُ ظَاهِرِ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أن خِدْمَةَ امْرَأَةٍ لَا تَقُومُ بِخَادِمٍ وَاحِدٍ بَلْ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى خَادِمَيْنِ يَكُونُ أَحَدُهُمَا مُعِينًا لِلْآخَرِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الزَّوْجَ لو قام بِخِدْمَتِهَا بِنَفْسِهِ لَا يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ خَادِمٍ أَصْلًا وَخَادِمٌ وَاحِدٌ يَقُومُ مَقَامَهُ فَلَا يَلْزَمُهُ غَيْرُهُ لِأَنَّهُ إذَا قام مَقَامَهُ صَارَ كَأَنَّهُ خَدَمَ بِنَفْسِهِ وَلِأَنَّ الْخَادِمَ الْوَاحِدَ لَا بُدَّ منه وَالزِّيَادَةُ على ذلك ليس له حَدٌّ مَعْلُومٌ يُقَدَّرُ بِهِ فَلَا يَكُونُ اعْتِبَارُ الْخَادِمَيْنِ أَوْلَى من الثَّلَاثَةِ وَالْأَرْبَعَةِ فَيُقَدَّرَ بِالْأَقَلِّ وهو الْوَاحِدُ هذا إذَا كان الزَّوْجُ مُوسِرًا فَأَمَّا إذَا كان مُعْسِرًا فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ ليس عليه نَفَقَةُ خَادِمٍ وَإِنْ كان لها خَادِمٌ وقال مُحَمَّدٌ إنْ كان لها خَادِمٌ فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ وَإِلَّا فَلَا‏.‏

وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَمَّا كان لها خَادِمٌ عُلِمَ أنها لَا تَرْضَى بِالْخِدْمَةِ بِنَفْسِهَا فَكَانَ على الزَّوْجِ نَفَقَةُ خَادِمِهَا وَإِنْ لم يَكُنْ لها خَادِمٌ دَلَّ أنها رَاضِيَةٌ بِالْخِدْمَةِ بِنَفْسِهَا فَلَا يُجْبَرُ على اتِّخَاذِ خَادِمٍ لم يَكُنْ وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الْوَاجِبَ على الزَّوْجِ الْمُعْسِرِ من النَّفَقَةِ أَدْنَى الْكِفَايَةِ وقد تكفي الْمَرْأَةُ بِخِدْمَةِ نَفْسِهَا فَلَا يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ الْخَادِمِ وَإِنْ كان لها خَادِمٌ وَأَمَّا الثَّانِي وهو بَيَانُ من يُقَدَّرُ بِهِ هذه النَّفَقَةَ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه أَيْضًا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ قَدْرَ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ يُعْتَبَرُ بِحَالِ الزَّوْجِ في يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ لَا بِحَالِهَا وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا‏.‏

وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِحَالِهِمَا جميعا حتى لو كَانَا مُوسِرَيْنِ فَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الْيَسَارِ وَإِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ فَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الْإِعْسَارِ وَكَذَلِكَ إذَا كان الزَّوْجُ مُعْسِرًا وَالْمَرْأَةُ مُوسِرَةً وَلَا خِلَافَ في هذه الْجُمْلَةِ فَأَمَّا إذَا كان الزَّوْجُ مُوسِرًا وَالْمَرْأَةُ مُعْسِرَةً فَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الْيَسَارِ على ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ وَعَلَى قَوْلِ الْخَصَّافِ عليه أَدْنَى من نَفَقَةِ الْمُوسِرَاتِ وَأَوْسَعُ من نَفَقَةِ الْمُعْسِرِينَ حتى لو كان الزَّوْجُ مُفْرِطًا في الْيَسَارِ يَأْكُلُ خُبْزَ الحواري وَلَحْمَ الجمل ‏[‏الحمل‏]‏ وَالدَّجَاجِ وَالْمَرْأَةُ مُفْرِطَةً في الْفَقْرِ تَأْكُلُ في بَيْتِهَا خُبْزَ الشَّعِيرِ لَا يَجِبُ عليه أَنْ يُطْعِمَهَا ما يَأْكُلُهُ وَلَا يُطْعِمُهَا ما كانت تَأْكُلُ في بَيْتِ أَهْلِهَا أَيْضًا وَلَكِنْ يُطْعِمُهَا خُبْزَ الْحِنْطَةِ وَلَحْمَ الشَّاةِ وَكَذَلِكَ الْكِسْوَةُ على هذا الِاعْتِبَارِ‏.‏

وَجْهُ قَوْلِ الْخَصَّافِ إنَّ في اعْتِبَارِ حَالَتِهِمَا في تَقْدِيرِ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ نَظَرًا من الْجَانِبَيْنِ فَكَانَ أَوْلَى من اعْتِبَارِ حَالِ أَحَدِهِمَا وَالصَّحِيحُ ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ من سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عليه رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا ما آتَاهَا‏}‏ وَهَذَا نَصٌّ في الْباب وإذا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ إذَا كان الزَّوْجُ مُعْسِرًا يُنْفِقْ عليها أَدْنَى ما يَكْفِيهَا من الطَّعَامِ وَالْإِدَامِ وَالدُّهْنِ بِالْمَعْرُوفِ وَمِنْ الْكِسْوَةِ أَدْنَى ما يَكْفِيهَا من الصَّيْفِيَّةِ وَالشِّتْوِيَّةِ وَإِنْ كان مُتَوَسِّطًا يُنْفِقْ عليها أَوْسَعَ من ذلك بِالْمَعْرُوفِ وَمِنْ الْكِسْوَةِ أَرْفَعَ من ذلك بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ كان غَنِيًّا يُنْفِقْ عليها أَوْسَعَ من ذلك كُلِّهِ بِالْمَعْرُوفِ وَمِنْ الْكِسْوَةِ أَرْفَعَ من ذلك كُلِّهِ بِالْمَعْرُوفِ وَإِنَّمَا كانت النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ بِالْمَعْرُوفِ لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عن الزَّوْجَيْنِ وَاجِبٌ وَذَلِكَ في إيجَابِ الْوَسَطِ من الْكِفَايَةِ وهو تَفْسِيرُ الْمَعْرُوفِ فَيَكْفِيهَا من الْكِسْوَةِ في الصَّيْفِ قَمِيصٌ وَخِمَارٌ‏.‏

وَمِلْحَفَةٌ وَسَرَاوِيلُ أَيْضًا في عُرْفِ دِيَارِنَا على قَدْرِ حَالِهِ من الْخَشِنِ وَاللَّيِّنِ وَالْوَسَطِ وَالْخَشِنُ إذَا كان من الْفُقَرَاءِ وَاللَّيِّنُ إذَا كان من الْأَغْنِيَاءِ وَالْوَسَطُ إذَا كان من الْأَوْسَاطِ وَذَلِكَ كُلُّهُ من الْقُطْنِ أو الْكَتَّانِ على حَسَبِ عَادَاتِ الْبُلْدَانِ إلَّا الْخِمَارُ فإنه يُفْرَضُ على الْغَنِيِّ خِمَارٌ حَرِيرٌ وفي الشِّتَاءِ يُزَادُ على ذلك حَشْوِيًّا وَفَرْوَةً بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْبِلَادِ في الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَأَمَّا نَفَقَةُ الْخَادِمِ فَقَدْ قِيلَ أن الزَّوْجَ الْمُوسِرَ يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ الْخَادِمِ كما يَلْزَمُ الْمُعْسِرَ نَفَقَةُ إمرأته وهو أَدْنَى الْكِفَايَةِ وَكَذَا الْكِسْوَةُ‏.‏

وَلَوْ اخْتَلَفَا فقالت الْمَرْأَةُ أنه مُوسِرٌ وَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الْمُوسِرِينَ وقال الزَّوْجُ إنِّي مُعْسِرٌ وَعَلَيَّ نَفَقَةُ الْمُعْسِرِينَ وَالْقَاضِي لَا يَعْلَمُ بِحَالِهِ ذكر ‏[‏ذكره‏]‏ في كتاب النِّكَاحِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ مع يَمِينِهِ وَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي وَالْخَصَّافُ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَرْأَةِ مع يَمِينِهَا وَأَصْلُ هذا أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بين الطَّالِبِ وَبَيْنَ الْمَطْلُوبِ في يَسَارِ الْمَطْلُوبِ وَإِعْسَارِهِ في سَائِرِ الدُّيُونِ فَالْمَشَايِخُ اخْتَلَفُوا فيه منهم من جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الْمَطْلُوبِ مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ من جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الطَّالِبِ مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ من حَكَّمَ فيه رَأْيَ الْمَطْلُوبِ وَمُحَمَّدٌ فصل بين الْأَمْرَيْنِ فَجَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الطَّالِبِ في الْبَعْضِ وَقَوْلَ الْمَطْلُوبِ في الْبَعْضِ وَذَكَرَ في الفضل ‏[‏الفصل‏]‏ أَصْلًا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ في النَّفَقَةِ قَوْلَ الْمَرْأَةِ وَكَذَا فصل الْخَصَّافُ لَكِنَّهُ ذَكَرَ أَصْلًا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ في النَّفَقَةِ قَوْلَ الزَّوْجِ وَبَيَانُ الْأَصْلَيْنِ وَذِكْرُ الْحُجَجِ يَأْتِي في كتاب الْحَبْسِ إن شاء الله تعالى‏.‏

فَإِنْ أَقَامَتْ الْمَرْأَةُ الْبَيِّنَةَ على يَسَارِهِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهَا وَإِنْ أَقَامَا جميعا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَتُهَا لِأَنَّهَا مُثْبِتَةٌ وَبَيِّنَةُ الزَّوْجِ لَا تُثْبِتُ شيئا وَلَوْ فَرَضَ الْقَاضِي لها نَفَقَةَ شَهْرٍ وهو مُعْسِرٌ ثُمَّ أَيْسَرَ قبل تَمَامِ الشَّهْرِ يَزِيدُهَا في الْفَرْضِ لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَكَذَلِكَ لو فَرَضَ لها فَرِيضَةً لِلْوَقْتِ وَالسِّعْرُ رَخِيصٌ ثُمَّ غَلَا فلم يَكْفِهَا ما فَرَضَ لها فإنه يَزِيدُهَا في الْفَرْضِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ كِفَايَةُ الْوَقْتِ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ السِّعْرِ وَلَوْ فَرَضَ لها نَفَقَةَ شَهْرٍ فَدَفَعَهَا الزَّوْجُ إلَيْهَا ثُمَّ ضَاعَتْ قبل تَمَامِ الشَّهْرِ فَلَيْسَ عليه نَفَقَةٌ أُخْرَى حتى يَمْضِيَ الشَّهْرُ وَكَذَا إذَا كَسَاهَا الزَّوْجُ فَضَاعَتْ الْكِسْوَةُ قبل تَمَامِ الْمُدَّةِ فَلَا كِسْوَةَ لها عليه حتى تَمْضِيَ الْمُدَّةُ التي أَخَذَتْ لها الْكِسْوَةَ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ فإن هُنَاكَ يُجْبَرُ على نَفَقَةٍ أُخْرَى وَكِسْوَةٍ أُخْرَى لِتَمَامِ الْمُدَّةِ التي أَخَذَ لها الْكِسْوَةَ إذَا حَلَفَ أنها ضَاعَتْ‏.‏

وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ تِلْكَ النَّفَقَةَ تَجِبُ لِلْحَاجَةِ أَلَا تَرَى أنها لَا تَجِبُ إلَّا لِلْمُحْتَاجِ وقد تَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ إلَى نَفَقَةٍ أُخْرَى وَكِسْوَةٍ أُخْرَى وَوُجُوبُ هذه النَّفَقَةِ ليس مَعْلُولًا بِالْحَاجَةِ بِدَلِيلِ أنها تَجِبُ لِلْمُوسِرَةِ إلَّا أَنَّ لها شَبَهًا بِالْأَعْوَاضِ وقد جُعِلَتْ عِوَضًا عن الِاحْتِبَاسِ في جَمِيعِ الشَّهْرِ فَلَا يَلْزَمُهُ عِوَضٌ آخَرُ في هذه الْمُدَّةِ وَلَوْ فَرَضَ الْقَاضِي لها نَفَقَةً أو كِسْوَةً فَمَضَى الْوَقْتُ الذي أَخَذَتْ له وقد بَقِيَتْ تِلْكَ النَّفَقَةُ أو الْكِسْوَةُ بِأَنْ أَكَلَتْ من مَالٍ آخَرَ أو لَبِسَتْ ثَوْبًا آخَرَ فَلَهَا عليه نَفَقَةٌ أُخْرَى وَكِسْوَةٌ أُخْرَى بِخِلَافِ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ

وَالْفَرْقُ ما ذَكَرْنَا أَنَّ نَفَقَةَ الْأَقَارِبِ تَجِبُ بِعِلَّةِ الْحَاجَةِ صِلَةً مَحْضَةً وَلَا حَاجَةَ عِنْدَ بَقَاءِ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَنَفَقَةُ الزَّوْجَاتِ لَا تَجِبُ لِمَكَانِ الْحَاجَةِ وَإِنَّمَا تَجِبُ جَزَاءً على الِاحْتِبَاسِ لَكِنْ لها شُبْهَةُ الْعِوَضِيَّةِ عن الِاحْتِبَاسِ وقد جُعِلَتْ عِوَضًا في هذه الْمُدَّةِ وَهِيَ مُحْتَبِسَةٌ بَعْدَ مُضِيِّ هذه الْمُدَّةِ بِحَبْسٍ آخَرَ فَلَا بُدَّ لها من عِوَضٍ آخَرَ وَلَوْ نَفِدَتْ نَفَقَتُهَا قبل مُضِيِّ الْمُدَّةِ التي لها أُخِذَتْ أو تَخَرَّقَ الثَّوْبُ فَلَا نَفَقَةَ لها على الزَّوْجِ وَلَا كِسْوَةَ حتى تَمْضِيَ الْمُدَّةُ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَكِسْوَتِهِمْ وَالْفَرْقُ نَحْوُ ما ذَكَرْنَا وَالله أعلم‏.‏

فصل بَيَانِ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ هذه النَّفَقَةِ

وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ هذه النَّفَقَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ في كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا قال أَصْحَابُنَا أنها تَجِبُ على وَجْهٍ لَا يَصِيرُ دَيْنًا في ذِمَّةِ الزَّوْجِ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي أو بِتَرَاضِي الزَّوْجَيْنِ فَإِنْ لم يُوجَدْ أَحَدُ هَذَيْنِ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ وقال الشَّافِعِيُّ أنها تَصِيرُ دَيْنًا في الذِّمَّةِ من غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَلَا رِضَاهُ وَلَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ في هذا الْفصل في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَنَّ الْفَرْضَ من الْقَاضِي أو التَّرَاضِي هل هو شَرْطُ صَيْرُورَةِ هذه النَّفَقَةِ دَيْنًا في ذِمَّةِ الزَّوْجِ أَمْ لَا وفي بَيَانِ شَرْطِ جَوَازِ فَرْضِهَا من الْقَاضِي على الزَّوْجِ إذَا كان شَرْطًا وفي بَيَانِ حُكْمِ صَيْرُورَتِهَا دَيْنًا في ذِمَّةِ الزَّوْجِ‏.‏

أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الْمَوْلُودِ له رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏ وعلى كَلِمَةُ إيجَابٍ فَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ مُطْلَقًا عن الزَّمَانِ وَقَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ من سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عليه رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ‏}‏ أَمَرَ تَعَالَى بِالْإِنْفَاقِ مُطْلَقًا عن الْوَقْتِ وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ قد وَجَبَتْ وَالْأَصْلُ أَنَّ ما وَجَبَ على إنْسَانٍ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِالْإِيصَالِ أو بالإبراء ‏[‏الإبراء‏]‏ كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ عِوَضًا لِوُجُوبِهَا بِمُقَابَلَةِ الْمُتْعَةِ فَبَقِيَتْ في الذِّمَّةِ من غَيْرِ قَضَاءٍ كَالْمَهْرِ‏.‏

وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ الزَّوْجَ يُجْبَرُ على تَسْلِيمِ النَّفَقَةِ وَيُحْبَسُ عليها وَالصِّلَةُ لَا تَحْتَمِلُ الْحَبْسَ وَالْجَبْرَ وَلَنَا أَنَّ هذه النَّفَقَةَ تَجْرِي مَجْرَى الصِّلَةِ وَإِنْ كانت تُشْبِهُ الْأَعْوَاضَ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِعِوَضٍ حَقِيقَةً لِأَنَّهَا لو كانت عِوَضًا حَقِيقَةً فَأَمَّا إنْ كانت عِوَضًا عن نَفْسِ الْمُتْعَةِ وَهِيَ الِاسْتِمْتَاعُ وإما إنْ كانت عِوَضًا عن مِلْكِ الْمُتْعَةِ وَهِيَ الِاخْتِصَاصُ بها لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الزَّوْجَ مَلَكَ مُتْعَتَهَا بِالْعَقْدِ فَكَانَ هو بِالِاسْتِمْتَاعِ مُتَصَرِّفًا في مِلْكِ نَفْسِهِ بِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعَ مَمْلُوكَةٍ له وَمَنْ تَصَرَّفَ في مِلْكِ نَفْسِهِ لَا يَلْزَمُهُ عِوَضٌ لِغَيْرِهِ وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِي لِأَنَّ مِلْكَ الْمُتْعَةِ قد قُوبِلَ بِعِوَضٍ مَرَّةً فَلَا يُقَابَلُ بِعِوَضٍ آخَرَ فَخَلَتْ النَّفَقَةُ عن مُعَوَّضٍ فَلَا يَكُونُ عِوَضًا حَقِيقَةً بَلْ كانت صِلَةً وَلِذَلِكَ سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى رِزْقًا بِقَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الْمَوْلُودِ له رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏ وَالرِّزْقُ اسْمٌ لِلصِّلَةِ كَرِزْقِ الْقَاضِي وَالصِّلَاتُ لَا تُمْلَكُ بِأَنْفُسِهَا بَلْ بِقَرِينَةٍ تَنْضَمُّ إلَيْهَا وَهِيَ الْقَبْضُ كما في الْهِبَةِ أو قَضَاءِ الْقَاضِي لِأَنَّ الْقَاضِيَ له وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ في الْجُمْلَةِ أو التَّرَاضِي لِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِنْسَانِ على نَفْسِهِ أَقْوَى من وِلَايَةِ الْقَاضِي عليه بِخِلَافِ الْمَهْرِ لِأَنَّهُ أُوجِبَ بِمُقَابَلَةِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ فَكَانَ عِوَضًا مُطْلَقًا فَلَا يَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ الْمُطْلَقَةِ وَلَا حُجَّةَ له في الْآيَتَيْنِ لِأَنَّ فِيهِمَا وُجُوبَ النَّفَقَةِ لَا بَقَاؤُهَا وَاجِبَةً لِأَنَّهُمَا لَا يَتَعَرَّضَانِ لِلْوَقْتِ فَلَوْ ثَبَتَ الْبَقَاءُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وإنه لَا يَصْلُحُ لِإِلْزَامِ الْخَصْمِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ أن الْأَصْلَ فِيمَا وَجَبَ على إنْسَانٍ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِالْإِيصَالِ أو الْإِبْرَاءِ فَنَقُولُ هذا حُكْمُ الْوَاجِبِ مُطْلَقًا لَا حُكْمَ الْوَاجِبِ على طَرِيقِ الصِّلَةِ بَلْ حُكْمُهُ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَأُجْرَةِ الْمَسْكَنِ وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن قَوْلِهِ إنَّهَا وَجَبَتْ عِوَضًا وَأَمَّا الْجَبْرُ وَالْحَبْسُ فَالصِّلَةُ تَحْتَمِلُ ذلك في الْجُمْلَةِ فإنه يُجْبَرُ على نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَيُحْبَسُ بها وَإِنْ كانت صِلَةً وَكَذَا من أَوْصَى بِأَنْ يُوهَبَ عَبْدُهُ من فُلَانٍ بَعْدَ مَوْتِهِ فَمَاتَ الْمُوصِي فَامْتَنَعَ الْوَارِثُ من تَنْفِيذِ الْهِبَةِ في الْعَبْدِ يُجْبَرُ عليه وَيُحْبَسُ بِأَنَّهُ وَإِنْ كانت الْهِبَةُ صِلَةً فَدَلَّ أَنَّ الْجَبْرَ وَالْحَبْسَ لَا يَنْفِيَانِ مَعْنَى الصِّلَةِ‏.‏

وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا اسْتَدَانَتْ على الزَّوْجِ قبل الْفَرْضِ أو التَّرَاضِي فَأَنْفَقَتْ أنها لَا تَرْجِعُ بِذَلِكَ على الزَّوْجِ بَلْ تَكُونُ مُتَطَوِّعَةً في الْإِنْفَاقِ سَوَاءٌ كان الزَّوْجُ غَائِبًا أو حَاضِرًا لأنها ‏[‏أنها‏]‏ لم تَصِرْ دَيْنًا في ذِمَّةِ الزَّوْجِ لِعَدَمِ شَرْطِ صَيْرُورَتِهَا دَيْنًا في ذِمَّتِهِ فَكَانَتْ الِاسْتِدَانَةُ إلْزَامَ الدَّيْنِ الزَّوْجَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَأَمْرِ من له وِلَايَةُ الْأَمْرِ فلم يَصِحَّ وَكَذَا إذَا أَنْفَقَتْ من مَالِ نَفْسِهَا لِمَا قُلْنَا وَكَذَا لو أَبْرَأَتْ زَوْجَهَا من النَّفَقَةِ قبل فَرْضِ الْقَاضِي وَالتَّرَاضِي لَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ لِأَنَّهُ إبْرَاءٌ عَمَّا ليس بِوَاجِبٍ وَالْإِبْرَاءُ إسْقَاطٌ وَإِسْقَاطُ ما ليس بِوَاجِبٍ مُمْتَنِعٌ وَكَذَا لو صَالَحَتْ زَوْجَهَا على نَفَقَةٍ وَذَلِكَ لَا يَكْفِيهَا ثُمَّ طَلَبَتْ من الْقَاضِي ما يَكْفِيهَا فإن الْقَاضِيَ يَفْرِضُ لها ما يَكْفِيهَا لِأَنَّهَا حَطَّتْ ما ليس بِوَاجِبٍ وَالْحَطُّ قبل الْوُجُوبِ بَاطِلٌ كَالْإِبْرَاءِ وَالله أعلم‏.‏

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِوُجُوبِ الْفَرْضِ على الْقَاضِي وَجَوَازِهِ منه شَرْطَانِ أَحَدُهُمَا طَلَبُ الْمَرْأَةِ الْفَرْضَ منه لِأَنَّهُ إنَّمَا يَفْرِضُ النَّفَقَةَ على الزَّوْجِ حَقًّا لها فَلَا بُدَّ من الطَّلَبِ من صَاحِبِ الْحَقِّ وَالثَّانِي حَضْرَةُ الزَّوْجِ حتى لو كان الزَّوْجُ غَائِبًا فَطَلَبَتْ الْمَرْأَةُ من الْقَاضِي أَنْ يَفْرِضَ لها عليه نَفَقَةً لم يَفْرِضْ وَإِنْ كان الْقَاضِي عَالِمًا بِالزَّوْجِيَّةِ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ الْآخَرِ وهو قَوْلُ شُرَيْحٍ وقد كان أبو حَنِيفَةَ أَوَّلًا يقول وهو قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أن هذا ليس بِشَرْطٍ وَيَفْرِضُ الْقَاضِي النَّفَقَةَ على الْغَائِبِ وَحُجَّةُ هذا الْقَوْلِ ما رَوَيْنَا عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لِهِنْدٍ امْرَأَةِ أبي سُفْيَانَ‏:‏ «خُذِي من مَالِ أبي سُفْيَانَ ما يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ» وَذَلِكَ من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان فَرْضًا لِلنَّفَقَةِ على أبي سُفْيَانَ وكان غَائِبًا وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَخِيرِ أَنَّ الْفَرْضَ من الْقَاضِي على الْغَائِبِ قَضَاءٌ عليه وقد صَحَّ من أَصْلِنَا أَنَّ الْقَضَاءَ على الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ عنه خَصْمٌ حَاضِرٌ ولم يُوجَدْ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَا حُجَّةَ له فيه لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّمَا قال لِهِنْدٍ على سَبِيلِ الْفَتْوَى لَا على طَرِيقِ الْقَضَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لم يُقَدِّرْ لها ما تَأْخُذُهُ من مَالِ أبي سُفْيَانَ وَفَرْضُ النَّفَقَةِ من الْقَاضِي تَقْدِيرُهَا فإذا لم تُقَدَّرْ لم تَكُنْ فَرْضًا فلم تَكُنْ قَضَاءً تَحْقِيقُهُ إن من يُجَوِّزُ الْقَضَاءَ على الْغَائِبِ فَإِنَّمَا يُجَوِّزُهُ إذَا كان غَائِبًا غَيْبَةَ سَفَرٍ فَأَمَّا إذَا كان في الْمِصْرِ فإنه لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ غَائِبًا وأبو سُفْيَانَ لم يَكُنْ مُسَافِرًا فَدَلَّ أَنَّ ذلك كان إعَانَةً لَا قَضَاءً فَإِنْ لم يَكُنْ الْقَاضِي عَالِمًا بِالزَّوْجِيَّةِ فَسَأَلَتْ الْقَاضِيَ أَنْ يَسْمَعَ بَيِّنَتَهَا بِالزَّوْجِيَّةِ وَيَفْرِضَ على الْغَائِبِ قال أبو يُوسُفَ لَا يَسْمَعُهَا وَلَا يَفْرِضُ وقال زُفَرُ يَسْمَعُ وَيَفْرِضُ لها وَتَسْتَدِينُ عليه فإذا حَضَرَ الزَّوْجُ وَأَنْكَرَ يَأْمُرُهَا بِإِعَادَةِ الْبَيِّنَةِ في وَجْهِهِ فَإِنْ فَعَلَتْ نُفِّذَ الْفَرْضُ وَصَحَّتْ الِاسْتِدَانَةُ وَإِنْ لم يَفْعَلْ لم يُنَفَّذْ ولم يَصِحَّ‏.‏

وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا يَسْمَعُ هذه الْبَيِّنَةَ لَا لِإِثْبَاتِ النِّكَاحِ على الْغَائِبِ لِيُقَالَ أن الْغَيْبَةَ تَمْنَعُ من ذلك بَلْ لِيَتَوَصَّلَ بها إلَى الْفَرْضِ وَيَجُوزُ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ في حَقِّ حُكْمٍ دُونَ حُكْمٍ كَشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ على السَّرِقَةِ وإنها تُقْبَلُ في حَقِّ الْمَالِ وَلَا تُقْبَلُ في حَقِّ الْقَطْعِ كَذَا هَهُنَا تُقْبَلُ هذه الْبَيِّنَةُ في حَقِّ صِحَّةِ الْفَرْضِ لَا في إثْبَاتِ النِّكَاحِ فإذا حَضَرَ وانكر إستعاد منها الْبَيِّنَةَ فَإِنْ أَعَادَتْ نُفِّذَ الْفَرْضُ وَصَحَّتْ الِاسْتِدَانَةُ عليه وَإِلَّا فَلَا وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أبي يُوسُفَ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا لَا تُسْمَعُ إلَّا على خَصْمٍ حَاضِرٍ وَلَا خَصْمَ فَلَا تُسْمَعُ وما ذَكَرَهُ زُفَرُ أَنَّ بَيِّنَتَهَا تُقْبَلُ في حَقِّ صِحَّةِ الْفَرْضِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ صِحَّةَ الْفَرْضِ مَبْنِيَّةٌ على ثُبُوتِ الزَّوْجِيَّةِ فإذا لم يَكُنْ إلَى إثْبَاتِ الزَّوْجِيَّةِ بِالْبَيِّنَةِ سبل ‏[‏سبيل‏]‏ لِعَدَمِ الْخَصْمِ لم يَصِحَّ فَلَا سَبِيلَ إلَى الْقَبُولِ في حَقِّ صِحَّةِ الْفَرْضِ ضَرُورَةً‏.‏

هذا إذَا كان الزَّوْجُ غَائِبًا ولم يَكُنْ له مَالٌ حَاضِرٌ فَأَمَّا إذَا كان له مَالٌ حَاضِرٌ فَإِنْ كان الْمَالُ في يَدِهَا وهو من جِنْسِ النَّفَقَةِ فَلَهَا أَنْ تُنْفِقَ على نَفْسِهَا منه بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي لِحَدِيثِ أبي سُفْيَانَ فَلَوْ طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ من الْقَاضِي فَرْضَ النَّفَقَةِ في ذلك الْمَالِ وَعَلِمَ الْقَاضِي بِالزَّوْجِيَّةِ وَبِالْمَالِ فَرَضَ لها النَّفَقَةَ لِأَنَّ لها أَنْ تَأْخُذَهُ فَتُنْفِقَ على نَفْسِهَا من غَيْرِ فَرْضِ الْقَاضِي فلم يَكُنْ الْفَرْضُ من الْقَاضِي في هذه الصُّورَةِ قَضَاءً بَلْ كان إعَانَةً لها على اسْتِيفَاءِ حَقِّهَا وَإِنْ كان في يَدِ مُودِعِهِ أو مُضَارِبِهِ أو كان له دَيْنٌ على غَيْرِهِ فَإِنْ كان صَاحِبُ الْيَدِ مُقِرًّا بالوديعة وَالزَّوْجِيَّةِ أو كان من عليه الدَّيْنُ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ وَالزَّوْجِيَّةِ أو كان الْقَاضِي عَالِمًا بِذَلِكَ فَرَضَ لها في ذلك الْمَالِ نَفَقَتَهَا في قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وقال زُفَرُ لَا يَفْرِضُ‏.‏

وَجْهُ قَوْلِهِ أن هذا قَضَاءٌ على الْغَائِبِ من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عنه خَصْمٌ حَاضِرٌ إذْ الْمُودِعُ ليس بِخَصْمٍ عن الزَّوْجِ وَكَذَا الْمَدْيُونُ فَلَا يَجُوزُ‏.‏ وَلَنَا أَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ وهو الْمُودِعُ إذَا أَقَرَّ بالوديعة وَالزَّوْجِيَّةِ أو أَقَرَّ الْمَدْيُونُ بِالدَّيْنِ وَالزَّوْجِيَّةِ فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّ لها حَقَّ الْأَخْذِ وَالِاسْتِيفَاءِ لِأَنَّ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَمُدَّ يَدَهَا إلَى مَالِ زَوْجِهَا فَتَأْخُذَ كِفَايَتَهَا منه لِحَدِيثِ امْرَأَةِ أبي سُفْيَانَ فلم يَكُنْ الْقَاضِي فَرَضَ لها النَّفَقَةَ في ذلك الْمَالِ قَضَاءً بَلْ كان إعَانَةً لها على أَخْذِ حَقِّهَا وَلَهُ على إحْيَاءِ زَوْجَتِهِ فَكَانَ له ذلك وَإِنْ جَحَدَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ وَلَا عِلْمَ لِلْقَاضِي بِهِ لم ‏[‏ولم‏]‏ يَسْمَعْ الْبَيِّنَةَ ولم يَفْرِضْ لِأَنَّ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ وَالْفَرْضِ يَكُونُ قَضَاءً على الْغَائِبِ من غَيْرِ خَصْمٍ حَاضِرٍ لِأَنَّهُ إنْ أَنْكَرَ الزَّوْجِيَّةَ لَا يُمْكِنُهَا إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ على الزَّوْجِيَّةِ لِأَنَّ الْمُودِعَ ليس بِخَصْمٍ عنه في الزَّوْجِيَّةِ وَإِنْ أَنْكَرَ الْوَدِيعَةَ أو الدَّيْنَ لَا يُمْكِنُهَا إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ على الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِخَصْمٍ عن زَوْجِهَا في إثْبَاتِ حُقُوقِهِ فَكَانَ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ على ذلك قَضَاءً على الْغَائِبِ من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عنه خَصْمٌ حَاضِرٌ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَنَا‏.‏

هذا إذَا كانت الْوَدِيعَةُ وَالدَّيْنُ من جِنْسِ النَّفَقَةِ بِأَنْ كانت دَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ أو طَعَامًا أو ثِيَابًا من جِنْسِ كِسْوَتِهَا فَأَمَّا إذَا كان من جِنْسٍ آخَرَ فَلَيْسَ لها أَنْ تَتَنَاوَلَ شيئا من ذلك وَإِنْ طَلَبَتْ من الْقَاضِي فَرَضَ النَّفَقَةَ فيه فَإِنْ كان عَقَارًا لَا يَفْرِضُ الْقَاضِي النَّفَقَةَ فيه بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ النَّفَقَةِ فيه إلَّا البيع ‏[‏بالبيع‏]‏ وَلَا يُبَاعُ الْعَقَارُ على الْغَائِبِ في النَّفَقَةِ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كان مَنْقُولًا من الْعُرُوضِ فَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ الْخِلَافَ فيه فقال الْقَاضِي لَا يَبِيعُ الْعُرُوضَ عليه في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا له أَنْ يَبِيعَهَا عليه وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْحَجْرِ على الْحُرِّ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ‏.‏

وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ الْمَسْأَلَةَ على الِاتِّفَاقِ فقال الْقَاضِي إنَّمَا يَبِيعُ على أَصْلِهِمَا على الْحَاضِرِ الْمُمْتَنِعِ عن قَضَاءِ الدَّيْنِ لِكَوْنِهِ ظَالِمًا في الِامْتِنَاعِ دَفْعًا لِظُلْمِهِ وَالْغَائِبُ لَا يُعْلَمُ امْتِنَاعُهُ فَلَا يُعْلَمُ ظُلْمُهُ فَلَا يُبَاعُ عليه وإذا فَرَضَ الْقَاضِي لها النَّفَقَةَ في شَيْءٍ من ذلك وَأَخَذَ منها كَفِيلًا فَهُوَ حَسَنٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَحْضُرَ الزَّوْجُ فَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ على طَلَاقِهَا أو على إيفَاءِ حَقِّهَا في النَّفَقَةِ عَاجِلًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَوْثِقَ فِيمَا يُعْطِيهَا بِالْكَفَالَةِ ثُمَّ إذَا رَجَعَ الزَّوْجُ يُنْظَرُ إنْ كان لم يُعَجِّلْ لها النَّفَقَةَ فَقَدْ مَضَى الْأَمْرُ وَإِنْ كان قد عَجَّلَ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ على ذلك أو لم يُقِمْ له بَيِّنَةً واستخلفها ‏[‏واستحلفها‏]‏ فَنَكَلَتْ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ من الْمَرْأَةِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ من الْكَفِيلِ‏.‏

وَلَوْ أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ أنها كانت قد تَعَجَّلَتْ النَّفَقَةَ من الزَّوْجِ فإن الزَّوْجَ يَأْخُذُ منها وَلَا يَأْخُذُ من الْكَفِيلِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ فَيَظْهَرُ في حَقِّهَا لَا في حَقِّ الْكَفِيلِ وَلَوْ طَلَبَتْ الزَّوْجَةُ من الْحَاكِمِ أَنْ يَدْفَعَ مَهْرَهَا وَنَفَقَتَهَا من الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ لم يَفْعَلْ ذلك وَإِنْ كان عَالِمًا بِهِمَا لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالنَّفَقَةِ في الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ كان نَظَرًا لِلْغَائِبِ لِمَا في الْإِنْفَاقِ من إحْيَاءِ زَوْجَتِهِ بِدَفْعِ الْهَلَاكِ عنها وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَرْضَى بِذَلِكَ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ في الْمَهْرِ وَالدَّيْنِ وَلَوْ كان الْحَاكِمُ فَرَضَ لها على الزَّوْجِ النَّفَقَةَ قبل غَيْبَتِهِ فَطَلَبَتْ من الْحَاكِمِ أَنْ يَقْضِيَ لها بِنَفَقَةٍ مَاضِيَةٍ في الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ قَضَى لها بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ الْقَضَاءُ بِالنَّفَقَةِ في الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنُ يَسْتَوِي فيه الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلُ لِأَنَّ طَرِيقَ الْجَوَازِ لَا يَخْتَلِفُ‏.‏

وَكَذَلِكَ إذَا كان لِلْغَائِبِ مَالٌ حَاضِرٌ وهو من جِنْسِ النَّفَقَةِ وَلَهُ أَوْلَادٌ صِغَارٌ فُقَرَاءُ وَكِبَارٌ ذُكُورٌ زمني فُقَرَاءُ أو أناث فَقِيرَاتٌ وَوَالِدَانِ فَقِيرَانِ فَإِنْ كان الْمَالُ في أَيْدِيهِمْ فَلَهُمْ أَنْ يُنْفِقُوا منه على أَنْفُسِهِمْ وَإِنْ طَلَبُوا من الْقَاضِي فَرْضَ النَّفَقَةِ منه فَرَضَ لِأَنَّ الْفَرْضَ منه يَكُونُ إعَانَةً لَا قَضَاءً وَإِنْ كان الْمَالُ في يَدِ مُودِعِهِ أو كان دَيْنًا على إنْسَانٍ فَرَضَ الْقَاضِي نَفَقَتَهُمْ منه وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ الْمُودِعُ وَالْمَدْيُونُ بالوديعة وَالدَّيْنِ وَالنَّسَبِ أو عَلِمَ الْقَاضِي بِذَلِكَ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ تَجِبُ بِطَرِيقِ الاحياء لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَرْضَى بِإِحْيَاءِ كُلِّهِ وَجُزْئِهِ من مَالِهِ وَلِهَذَا كان لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ إلَى مَالِ الْآخَرِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَيَأْخُذَهُ من غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا وقد تَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ هَهُنَا فَكَانَ لِلْقَاضِي أَنْ يَفْرِضَ ذلك من طَرِيقِ الْإِعَانَةِ لِصَاحِبِ الْحَقِّ وأن جَحَدَهُمَا أو أَحَدَهُمَا وَلَا عِلْمَ لِلْقَاضِي بِهِ لم يَفْرِضْ لِمَا ذَكَرْنَا في الزَّوْجَةِ وَلَا يُفْرَضُ لِغَيْرِهِمَا وَلَا من ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ نَفَقَتُهُمْ في مَالِ الْغَائِبِ لِأَنَّ نَفَقَتَهُمْ من طَرِيقِ الصِّلَةِ الْمَحْضَةِ إذْ ليس لهم حَقٌّ في مَالِ الْغَائِبِ أَصْلًا‏.‏

أَلَا تَرَى أَنَّهُ ليس لِأَحَدٍ أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ إلَى مَالِ صَاحِبِهِ فَيَأْخُذَهُ وَإِنْ مَسَّتْ حَاجَتُهُ من غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَكَانَ الْفَرْضُ قَضَاءً على الْغَائِبِ من غَيْرِ خَصْمٍ حَاضِرٍ فَلَا يَجُوزُ وَإِنْ لم يَكُنْ الْمَالُ من جِنْسِ النَّفَقَةِ فَلَيْسَ لهم أَنْ يَبِيعُوا بِأَنْفُسِهِمْ وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَبِيعَ على الْغَائِبِ في النَّفَقَةِ على هَؤُلَاءِ الْعَقَارَ بِالْإِجْمَاعِ وَالْحُكْمُ في الْعُرُوضِ ما بَيَّنَّا من الِاتِّفَاقِ أو الِاخْتِلَافِ وفي بَيْعِ الْأَبِ الْعُرُوضَ خِلَافٌ نَذْكُرُهُ في نَفَقَةِ الْمَحَارِمِ وَأَمَّا يَسَارُ الزَّوْجِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْفَرْضِ حتى لو كان مُعْسِرًا وَطَلَبَتْ الْمَرْأَةُ الْفَرْضَ من الْقَاضِي فَرَضَ عليه إذَا كان حَاضِرًا وَتَسْتَدِينُ عليه فَتُنْفِقُ على نَفْسِهَا لِأَنَّ الاعسار لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ هذه النَّفَقَةِ فَلَا يَمْنَعُ الْفَرْضَ وإذا طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ من الْقَاضِي فَرْضَ النَّفَقَةِ على زَوْجِهَا الْحَاضِرِ فَإِنْ كان قبل النُّقْلَةِ وَهِيَ بِحَيْثُ لَا تَمْتَنِعُ من التَّسْلِيمِ لو طَالَبَهَا بِالتَّسْلِيمِ أو كان امْتِنَاعُهَا بِحَقٍّ فَرَضَ الْقَاضِي لها إعَانَةً لها على الْوُصُولِ إلَى حَقِّهَا الْوَاجِبِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَشَرْطِهِ وَإِنْ كان بَعْدَمَا حَوَّلَهَا إلَى مَنْزِلِهِ فَزَعَمَتْ أَنَّهُ ليس يُنْفِقُ عليها أو شَكَتْ التَّضْيِيقَ في النَّفَقَةِ فَلَا يَنْبَغِي له أَنْ يُعَجِّلَ بِالْفَرْضِ وَلَكِنَّهُ يَأْمُرُهُ بِالنَّفَقَةِ وَالتَّوْسِيعِ فيها لِأَنَّ ذلك من باب الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ وأنه مَأْمُورٌ بِهِ وَيَتَأَتَّى في الْفَرْضِ وَيَتَوَلَّى الزَّوْجُ الْإِنْفَاقَ بِنَفْسِهِ قبل الْفَرْضِ إلَى أَنْ يَظْهَرَ ظُلْمُهُ بِالتَّرْكِ وَالتَّضْيِيقِ في النَّفَقَةِ فَحِينَئِذٍ يَفْرِضُ عليه نَفَقَةً كُلَّ شَهْرٍ وَيَأْمُرُهُ أَنْ يَدْفَعَ النَّفَقَةَ إلَيْهَا لِتُنْفِقَ هِيَ بِنَفْسِهَا على نَفْسِهَا‏.‏

وَلَوْ قالت أَيُّهَا الْقَاضِي أنه يُرِيدُ أَنْ يَغِيبَ فَخُذْ لي منه كَفِيلًا بِالنَّفَقَةِ لَا يُجْبِرُهُ الْقَاضِي على إعْطَاءِ الْكَفِيلِ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْمُسْتَقْبَلِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ لِلْحَالِ فَلَا يُجْبَرُ على الْكَفِيلِ مما ‏[‏بما‏]‏ ليس بِوَاجِبٍ يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ على التَّكْفِيلِ بِدَيْنٍ وَاجِبٍ فَكَيْفَ بِغَيْرِ الْوَاجِبِ وَإِلَى هذا أَشَارَ أبو حَنِيفَةَ فقال لَا أُوجِبُ عليه كَفِيلًا بِنَفَقَةٍ لم تَجِبْ لها بَعْدُ وقال أبو يُوسُفَ أَسْتَحْسِنُ أَنْ آخُذَ لها منه كَفِيلًا بِنَفَقَةِ أَشْهُرٍ لِأَنَّا نَعْلَمُ بِالْعَادَةِ أَنَّ هذا الْقَدْرَ يَجِبُ في السَّفَرِ لِأَنَّ السَّفَرَ يَمْتَدُّ إلَى شَهْرٍ غَالِبًا وَالْجَوَابُ أَنَّ نَفَقَةَ الشَّهْرِ لَا تَجِبُ قبل الشَّهْرِ فَكَانَ تَكْفِيلًا بِمَا ليس بِوَاجِبٍ فَلَا يُجْبَرُ عليه وَلَكِنْ لو أَعْطَاهَا كَفِيلًا جَازَ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِمَا يذوب ‏[‏ينوب‏]‏ على فُلَانٍ جَائِزَةٌ‏.‏

وَأَمَّا الثَّالِثُ وهو بَيَانُ حُكْمِ صَيْرُورَةِ هذه النَّفَقَةِ دَيْنًا في ذِمَّةِ الزَّوْجِ فَنَقُولُ إذَا فَرَضَ الْقَاضِي لها نَفَقَةً كُلَّ شَهْرٍ أو تَرَاضَيَا على ذلك ثُمَّ مَنَعَهَا الزَّوْجُ قبل ذلك أَشْهُرًا غَائِبًا كان أو حَاضِرًا فَلَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِنَفَقَةِ ما مَضَى لِأَنَّهَا لما صَارَتْ دَيْنًا بِالْفَرْضِ أو التَّرَاضِي صَارَتْ في اسْتِحْقَاقِ الْمُطَالَبَةِ بها كَسَائِرِ الدُّيُونِ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ إذَا مَضَتْ الْمُدَّةُ ولم تُؤْخَذْ أنها تَسْقُطُ لِأَنَّهَا لَا تَصِيرُ دَيْنًا رَأْسًا لِأَنَّ وُجُوبَهَا لِلْكِفَايَةِ وقد حَصَلَتْ الْكِفَايَةُ فِيمَا مَضَى فَلَا يَبْقَى الْوَاجِبُ كما لو اسْتَغْنَى بِمَالِهِ فَأَمَّا وُجُوبُ هذه النَّفَقَةِ فَلَيْسَ لِلْكِفَايَةِ وَإِنْ كانت مُقَدَّرَةً بِالْكِفَايَةِ‏.‏

أَلَا تَرَى أنها تَجِبُ مع الِاسْتِغْنَاءِ بِأَنْ كانت مُوسِرَةً وَلَيْسَ في معنى ‏[‏مضي‏]‏ الزَّمَانِ إلَّا الِاسْتِغْنَاءَ فَلَا يُمْنَعُ بَقَاءُ الْوَاجِبِ وَلَوْ انفقت من مَالِهَا بَعْدَ الْفَرْضِ أو التَّرَاضِي لها أنه تَرْجِعَ على الزَّوْجِ لِأَنَّ النَّفَقَةَ صَارَتْ دَيْنًا عليه وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَدَانَتْ على الزَّوْجِ لِمَا قُلْنَا سَوَاءٌ كانت اسْتِدَانَتُهَا بِإِذْنِ الْقَاضِي أو بِغَيْرِ إذْنِهِ غير أنها إنْ كانت بِغَيْرِ إذْنِ الْقَاضِي كانت الْمُطَالَبَةُ عليها خاضة ‏[‏خاصة‏]‏ ولم يَكُنْ لِلْغَرِيمِ أَنْ يُطَالِبَ الزَّوْجَ بِمَا اسْتَدَانَتْ وَإِنْ كانت بِإِذْنِ الْقَاضِي لها أَنْ تُحِيلَ الْغَرِيمَ على الزَّوْجِ فَيُطَالِبَهُ بِالدَّيْنِ وهو فَائِدَةُ إذْنِ الْقَاضِي بِالِاسْتِدَانَةِ وَلَوْ فَرَضَ الْحَاكِمُ النَّفَقَةَ على الزَّوْجِ فَامْتَنَعَ من دَفْعِهَا وهو مُوسِرٌ وَطَلَبَتْ الْمَرْأَةُ حَبْسَهُ لها أَنْ تَحْبِسَهُ لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَمَّا صَارَتْ دَيْنًا عليه بِالْقَضَاءِ صَارَتْ كَسَائِرِ الدُّيُونِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْبِسَهُ في أَوَّلِ مَرَّةٍ تَقَدَّمَ إلَيْهِ بَلْ يُؤَخِّرُ الْحَبْسَ إلَى مَجْلِسَيْنِ أو ثَلَاثَةٍ يَعِظُهُ في كل مَجْلِسٍ يُقَدَّمُ إلَيْهِ‏.‏

فَإِنْ لم يَدْفَعْ حَبَسَهُ حِينَئِذٍ كما في سَائِرِ الدُّيُونِ لِمَا نَذْكُرُ فيك تاب ‏[‏كتاب‏]‏ الْحَبْسِ إن شاء الله تعالى‏.‏ وإذا حُبِسَ لِأَجْلِ النَّفَقَةِ فما كان من جِنْسِ النَّفَقَةِ سَلَّمَهُ الْقَاضِي إلَيْهَا بِغَيْرِ رِضَاهُ بِالْإِجْمَاعِ وما كان من خِلَافِ الْجِنْسِ لَا يَبِيعُ عليه شيئا من ذلك وَلَكِنْ يَأْمُرُهُ أَنْ يَبِيعَ بِنَفْسِهِ وَكَذَا في سَائِرِ الدُّيُونِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَبِيعُ عليه وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْحَجْرِ على الْحُرِّ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ نَذْكُرُهَا في كتاب الْحَجْرِ إن شاء الله تعالى‏.‏

فَإِنْ ادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ قد أَعْطَاهَا النَّفَقَةَ وَأَنْكَرَتْ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مع يَمِينِهَا لِأَنَّ الزَّوْجَ يَدَّعِي قَضَاءَ دَيْنٍ عليه وَهِيَ مُنْكِرَةٌ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مع يَمِينِهَا كما في سَائِرِ الدُّيُونِ وَلَوْ أَعْطَاهَا الزَّوْجُ مَالًا فَاخْتَلَفَا فقال الزَّوْجُ هو من الْمَهْرِ وَقَالَتْ هِيَ هو من النَّفَقَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ إلَّا أَنْ تُقِيمَ الْمَرْأَةُ الْبَيِّنَةَ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ منه فَكَانَ هو أَعْرَفَ بِجِهَةِ التَّمْلِيكِ كما لو بَعَثَ إلَيْهَا شيئا فقالت هو هَدِيَّةٌ وقال هو من الْمَهْرِ أَنَّ الْقَوْلَ فيه قَوْلُهُ إلَّا في الطَّعَامِ الذي يُؤْكَلُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا‏.‏

وَلَوْ كان لِلزَّوْجِ عليها دَيْنٌ فَاحْتَسَبَتْ عن نَفَقَتِهَا جَازَ لَكِنْ بِرِضَا الزَّوْجِ لِأَنَّ التقاص ‏[‏التقاصر‏]‏ إنَّمَا يَقَعُ بين الدَّيْنَيْنِ المماثلين ‏[‏المتماثلين‏]‏ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ بين الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ وَدَيْنُ الزَّوْجِ أَقْوَى بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ وَدَيْنُ النَّفَقَةِ يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ فأشبه ‏[‏فاشتبه‏]‏ الْجَيِّدُ بِالرَّدِيءِ فَلَا بُدَّ من الْمُقَاصَّةِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا من الدُّيُونِ وَالله أعلم‏.‏